مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 28-1-2007
أنواع نفسيات
ليست كل النفسيات من نوع واحد، سواء في ذلك الأبرار أو الأشرار. فكل واحد له طبعه الذي يتميز به عن الآخر.. فهناك نفسيات اجتماعية يمكنها أن تندمج مع الآخرين وتتعامل معهم، ونفسيات أخرى تحب الوحدة والهدوء. ونفسيات ثالثة تندمج في الأمرين معًا: يمكنها أن تعيش في المجتمع أو تعيش في الوحدة، حسبما تتيح الظروف لها، وتنجح وتنتج في الحالين.
توجد نفسية مستريحة، وتريح غيرها من الناس.
تعيش سعيدة وراضية، ويكون تعاملها مع الناس سهلًا. الخير الذي فيها تفيض به على الآخرين. وما في طبعها من الكرم والحب تغدقه على غيرها. نفسية خدومة تخدم كل من يقابلها في طريق الحياة وهى مستعدة أن تبذل وتجزل العطاء، وتتعب لتريح الآخرين.
ومن هذا النوع الممرضين والممرضات، والذين يعملون في إطفاء الحرائق وإنقاذ الغرقى، والذين يكرسون أنفسهم في خدمة مرضى الجذام lepers ومرضى السلّ، وفي خدمة المعوقين والعجائز والمسنين، ويجدون سعادتهم في إسعاد غيرهم…
أما النفسية الشريرة: فما فيها من شرّ، تظنه في غيرها…
• فالإنسان الكذاب يظن أن جميع الناس يكذبون مثله! وإن قلت له شيئًا، يسأل “أصحيح هذا الكلام؟ هل أنت متأكد؟ إذن احلف لي. هل بذمتك حدث هذا فعلًا؟…” ذلك لأن الكذب الذي في طبعه يسقطه على غيرك، ويشك في كل ما يصل إليه.
• والشخص الماكر، يظن بالمثل أن غيره يمكر به، وكذلك غير الأمين لا يأتمن أحدًا على سرّ، ولا على ماله، ولا على عرضه…
• وإن كان في نفسية شخص: الخداع، يفكر أن كل من يقابله يمكن أن يخدعه فيتخوف منهم. وإن كانت الخيانة في طبعه، يظن أن غيره سيخونه، فيحترس حتى من أصدقائه المقربين. وإن كان في نفسيته سوء الظن، يسئ الظن في كل من يتودد إليه.
وإن كان شخص في نفسيته عقدة الاضطهاد Persecution Complex يظن أن كل شخص يمكن أن يضايقه أو يتآمر عليه. وبذلك يعيش في خوف وربما في انطواء.
وهذا النوع من الناس ينفث فيمن حوله نفس الخوف والشك.
ويقول لمن يطلب نصيحته: خذ حذرك من الناس. فمن الجائز أن يخدعوك إذ يكذبوا عليك أو يضطهدوك.. وبهذا النصح يربى فيه ما يشبه نفسيته! حتى بعض الوظائف المعينة تجد عند أصحابها نفسية الشك والتحقيق في كل شيء…
والنفسيات تتنوع أحيانًا بحسب الوراثة أو البيئة أو التربية.
فالابن مثلًا يمكن أن يرث نوعًا من النفسية, من أبيه أو أمه. أي يَرِثْ طبعًا معينًا يظل ثابتًا في نفسيته, أو يلتقطه من نوع التربية.. وهكذا نرى بعض الشعوب تتميز بطباع خاصة, أو نفسية تسود على الغالبية
أو يتأثر الشخص بالجو العام, حتى في التقاليد, وفي العقيدة أيضًا. فمثلًا في البلاد الشيوعية, يتأثر الطفل من صغره بالجو الشيوعي, ويصير شيوعيًا. لا تقبل نفسيته الإيمان بوجود الله, ولا بحياة أخرى.
وفى تأثير البيئة والجو العام على طباع الناس ونفسياتهم, نجد كثيرا من الناس سافروا إلى الخارج وقضوا هناك فترة طويلة, قد أثر ذلك على طباعهم وتقاليدهم. وحينما يرجعون إلى بلادهم, تكون نفسياتهم قد تغيرت, وصارت لهم طباع لم تكن فيهم من قبل!
• وأحيانًا تتأثر النفسية بالقدوة والمثل ونوع الصداقة.
وفى ذلك قال أحد من الأدباء “إن قلت لي من هم أصدقاؤك, أقول لك من أنت”. ومن المبالغة الشديدة في هذا التأثر, تقول بعض الأمثال الشعبية “من عاشر قومًا أربعين يومًا, صار منهم”!!
* وتتأثر النفسية أيضًا بنوع القراءة, إن كانت عميقة ومقنعة لهم.
* كما تتأثر النفسية أيضًا بنوع العُقد.
فمثلًا إنسان خانه صديقه العزيز عليه جدًا, وكانت تلك الخيانة عميقة الأثر في نفسه. فقد تغرس في نفسيته عقده من الصعب أن يتخلص منها. وهى أن أي شخص يمكن أن يخونه. فيتخوف من بعض أصدقائه ويحترس من خيانة غيره له.
كذلك من يقع في عقده الخوف, ومن طباعِ تكونت فيه منذ طفولته, وعقّدته في بعض الأمور.
ومع كل ما ذكرناه, يمكن للنفسية أن تتغير…
بل قد تتغير إلى العكس, إن أثَّرت عليها عوامل مضادة على درجة من العمق. كما حدث في توبة بعض مشاهير التاريخ…
ومثال ذلك القديس أوغسطينوس الذي كان في بدء حياته بعيدًا عن الله والإيمان, وبعيدًا عن حياة العفة والطهارة. وقد كتب تفاصيل خطاياه في كتاب اعترافاته…
ولكنه لما تاب.. وكانت توبته صادقه وعميقة, تغير إلى العكس تمامًا, وصار راهبًا ثم أسقفًا. وقاد حياة الفضيلة والتأمل في جيله, بل ترك تأثيره الروحي في أجيال طويلة من بعده…
ومن الناحية الطبية, يمكن للنفسية أن تتعب وتمرض..
بل تدخل أيضًا في صراع مع الذات, وتنقسم على ذاتها.. وقد يصيبها القلق والاضطراب وربما لغير سبب مقنع…
نعم, هناك نفسيات قلقة باستمرار وخائفة ومنزعجة. الشك يصيبها بالقلق. مثل أم تأخر ابنها إلى ساعة متأخرة بالليل. وتظل تلعب بها الأفكار: ربما حدث له حادث مؤسف, أو ربما خطفه بعض الأشرار.
ويظل زوجها في البيت يبتسم في وجهها ويلاطفها. ربما أبننا تأخر في المذاكرة مع أصدقائه, أو قد يكون في لهو معهم أو في النادي. وهى تستمر في قلقها, وتقول لزوجها: ربما تعب أبننا من معاملتنا, وفّضل البعد عن البيت. وهكذا تظل في القلق حتى يرجع ابنها بسلامة, دون أن يضره شيء.
وهناك نفسية تتعب فتضر ذاتها:
كإنسان في نفسيته بعض التردد والخوف, فلا يقدر على اتخاذ قرار سريع أو بطئ. فهو دائما يتقلب في ما ينبغي أن يفعله أو يتجه إليه: كمن يتردد في نوع الدراسة التي يدرسها, أو في نوع العمل أو الوظيفة التي تحكم مستقبله. أو يتردد في موضوع الزواج وأية فتاة يختار؟ وهل سيسعد في اختياره أم لا.
وتردده هذا, يصل به إلى نوع آخر من المرض النفسي, هو عدم الثقة بالنفس. فلا يثق بأي شيء يصل إليه تفكيره: هل هو صواب أم خطأ. ويضطر أن يقابل غيره, ويعرض عليه الأمر. وما يصل إليه من مشورة, ربما لا يثق هل يستطيع أن ينفذه أم لا؟
إنها نفسية تحتاج إلى من يسندها باستمرار, ومن تثق في حكمته وصحة رأيه.
وبعد, ألا ترى معي أن هذا الموضوع طويل, وأن أنواع النفسيات يحتاج منا إلى لقاء آخر لنوفيه حقه؟
إذن إلى اللقاء في المقال المقبل إن شاء الله.