مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 4-3-2007
الذكاء.. استخدامه وعوائقه
إذا استخدم الذكاء في حكمة, كان بركة عظيمة لصاحبه ولكل المتعاملين معه. وإذا أُسيءَ استخدامه ينتج عنه شرّ وضرر. مثله مثل المال, والوقت, وبعض المخترعات: على حسب استعمالها, تكون النتيجة خيرًا أو شرًا.. هكذا الذكاء…
فالذكاء من جهة الخير:
* هو سبب نجاح الإنسان وسبب تفوقه, سواء في الدراسة أو العمل أو أي مشروع يقوم به, وهو أيضًا سبب نجاحه اجتماعيًا في علاقته مع الآخرين. وبالذكاء يمكنه أن يخرج من أي مأزق, وأن يحل أي مشكلة تحل به.
* والذكاء مصدر كبير لروح الفكاهة والدعابة والترفيه. وكل الذين اتصفوا بخفة الروح كانوا أذكياء, ويتقنون كيف يستخدمون الكلمة الواحدة بأكثر من معنى, ويدركون العنصر الذي تتأثر به نفوسهم ويثير فيها روح المرح والبهجة..
* والذكاء يصلح أيضًا في الدفاع عن النفس والدفاع عن الغير. وهو لازم لمن يعملون في مجال المحاماة وفي مجال التقاضي.
* والذكاء يصلح جدًا للعاملين في التحقيقات وفي الأمن. وبه يكتشفون الجريمة ومرتكبيها, كما يكتشفون خداع من يفكر بينما هو المرتكب الحقيقي للجرم… بل الذكاء أيضًا لكل من يدير عملًا ويراقب سير الأمور فيه.
* والذكاء نافع أيضًا لأن يتعرف به الإنسان على حقيقة ذاته وأسباب أخطائه وطرق مقاومتها. والإنسان الذكي لا تخدعه حيل الشياطين في إسقاطه. بل هو أيضًا لازم لمن يعمل في مجال الإرشاد الروحي, به يدرك عمق الحروب الروحية وطرق مقاومتها…
* والذكاء نافع جدًا في كسب ثقة الناس واحترامهم. وكل الناس يعجبون بالإنسان الذكي, ويرحبون بصداقته وبالعمل معه…
* وإن كان الجمال سلاح المرأة ومصدر أعجاب الناس بها, فإن الذكاء كثيرًا ما يكون سلاح الرجل ومصدر التفاف الناس حوله. وهو الذي يرشحه لكثير من الوظائف والمناصب, ويفسح له مجالًا في العمل الاجتماعي.
ولكن الذكاء- للأسف- يُستخدم أحيانًا بطريقة سيئة.
* فقد يتحول إلى لون من المكر والدهاء.
* وما أسهل أن يُستخدم الذكاء في الغش وفي التزوير, وفي تلفيق التهم على الأبرياء, وفى نهب الآخرين والسطو على حقوقهم.
* والمعروف أن أشهر قادة العصابات كانوا أذكياء. وكذلك كل من يقومون بأعمال التخريب وبأنواع شتى من الجرائم والنصب والاحتيال…
* وبالاستخدام السيئ للذكاء يمكن خداع البسطاء. وكلما اشتد ذكاء أولئك الأشرار يمكنهم أن يخدموا الكبار أيضًا… والبعض منهم يلتصقون بأصحاب المناصب الكبيرة لكي يعملوا من خلالهم, إذ يشعرونهم أنهم أكثر الناس إخلاصًا لهم, وأنهم يقدمون النصيحة النافعة, وبهذا ينالون ثقتهم ويورطونهم في أمور تضرهم…
* والذكاء السيئ يمكنه أن ينشر الشائعات المغرضة, ويسبكها حتى تبدو وكأنها حقيقة يصدقها الغير…
* واذا استخدم الذكاء السيئ في مجال السياسة أو في الحروب, أو خداع الأمم الضعيفة, فإنه يكون ويلًا لها…
* والذكاء السيئ يمكن أن يُستخدم في الجاسوسية بتمثيل ذكاء يستطيع به الجاسوس أن يتنكر أو يتخفى تمامًا, ولا يسمح بمجال للشك فيه…
* ويعوزنا الوقت أن نتحدث عن ألوان الاستخدام السيئ للذكاء.
الفرق بين الذكاء والحكمة:
الذكاء يظهر في التفكير العقلي السليم, والحكمة تظهر في التصرف الحسن. وقد يجتمعان معًا: فالإنسان الحكيم يكون ذكيًا. ولكن ليس كل ذكي يكون حكيمًا في تصرفاته, إذ تقف أمامه عوائق معينة تعطل هذا الذكاء في عمله.
ومن أجمل ما قيل في الحكمة والذكاء, قول الشاعر:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلًا .:. فأرسِل حكيمًا ولا توُصهِ
وإن باب أمرٍ عليك التوى .:. فشاور لبيبًا ولا تعَصهِ
فم هي الأمور التي تعوق الذكاء, وتفقده الحكمة في التصرف؟
* ربما يكون إنسان ذكيا, ولكنه قليل المعرفة. يقع في أخطاء بعيدة عن الحكمة في التصرف, وتُسمى “خطايا الجهل”. وقد يوجد إنسان آخر كثير المعرفة عن طريق قراءة واسعة في الكتب, ولكنه ليس ذكيًا, ويلقبونه بالإنجليزية Bookish من قراءة الكتب بلا فهم أو بلا حكمة. فالكتب بالنسبة إليه طلاء خارجي لشخصية فارغة من الداخل..!
* وربما يفقد الذكي الحكمة, إن كان غضوبًا أو متوتر الأعصاب, أو في حالة نفسية سيئة لا تساعده على التفكير. لذلك فإن العقل يتعطل عن قيادة تصرفاته, وتتولى قيادته الأعصاب فيخطئ…
* وقد يوجد إنسان ذكي, ولكنه شهواني. وحينما تسيطر عليه الشهوة, لا تترك مجالًا للعقل لأن يعمل. وحينئذ تقوده الشهوة, ويقع في أخطاء وفي خطايا بعيدة تمامًا عن الحكمة على الرغم من ذكائه! أو قد يستخدم ذكاؤه في تنفيذ شهواته, غير حاسب نتائج كل ذلك… وربما تكون الشهوة شهوة المال, أو شهوة الشهرة, أو شهوة السلطة, أو شهوة الجسد… وأيًا كان نوعها, فإنها تعطل عقله عن العمل السليم وعن التصرف الحكيم…
* وربما يكون الذكي سماعًا, أي يتأثر كثيرًا بما يسمع, ويصدقه, ويثق بما تصل إليه من معلومات, وما أكثر ما تكون خاطئة. ولكنه يبنى قراره حسب ما يسمعه, ولا يكون قرارًا حكيمًا.
* وربما يساعده على هذا السلوك غير الحكيم, أنه ليس لديه وقت لفحص الأمر ودراسته, فيتخذ قرارًا خاطئًا بسبب سرعة البت في الأمور. ويشبه الوقوع في مثل هذا الخطأ: الذكي ولكنه مندفع بطبعه. وبالمثل الإنسان الشديد الحساسية…
ومن هذا كله نرى أن نوع النفسية تؤثر على استخدام الذكاء, أو تعوق استخدامه أحيانًا…
* فقد يكون الإنسان ذكيًا, ولكنه مستعبد من عادة رديئة تسيطر عليه, وتخضعه لحكمها, فيتصرف تصرفات خاطئة. إذ قد توقف العقل بكل ذكائه, وتولت العادة دفة القيادة…
* أو قد تقوده مشاعر الحقد, أو الحسد, أو الغيرة, أو الغرور. وتدفعه بعيدًا عن الحكمة, ويستسلم ذكاؤه لتلك المشاعر فيخطئ ويرتكب ما لا يمكن أن يفعله إنسان حكيم..!
حقًا أن الإرادة قد تقف ضد الذكاء. وإذا سيطرت, لا يكون الإنسان وقتذاك في كامل عقله ولا يتصرف بذكاء! وهكذا يفعل ما يضر نفسه, سواء كان يدرى ذلك أو لا يدرى
نقطة أخيرة أقولها قبل أن أختم هذا الموضوع وهى:
متاعب الذكاء:
*كما أن الذكاء له منافع, له أيضًا متاعب!
منها أن الذكي قد يظن غيره على نفس الدرجة من الفهم, وقد لا يكونون ذلك. فيتضايق إن لم يفهموا ما يريده منهم, أو ما يريده لهم. وربما تتعب أعصابه, ويتضايق بسبب ذلك, ويثور أو يحزن, لأنه كان يتوقع غير ما يحدث..!
* أو قد يعتمد شخص على ذكائه, فلا يعمل ما ينبغي له أن يعمل, وذكاؤه وحده لا يكفى. فتكون النتائج سيئة..
* أو قد ينحرف اتجاه الذكاء- فكرًا وليس عملًا- ويستخدم كل طاقاته في الانحراف الفكري. ومثال ذلك بعض الفلاسفة الملحدين, كان لهم نشاط عقلي كبير, ولكنه انحرف فوقع في ضلال وأوقع غيره معه. وهكذا أصحاب البدع أيضًا…