مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 10-12-2006
الفضائل لا تتعارض بل تتكامل
لا يوجد تناقض في الفضائل, ولا يهدم بعضها بعضًا مهما بدت بعض التناقضات للعين غير الفاحصة! والإنسان الحكيم لا يقتنى إحدى الفضائل على حساب فقد فضيلة أخرى, بل يجاهد لاكتساب الكل…
لذلك فهو يجمع بين الحب والحزم, وبين الرحمة والعدل, وبين الوداعة والشجاعة, وبين البساطة والحكمة… فكلها فضائل تتمشى معًا في غير تعارض ولا تناقض. وسنبدأ حديثان عن تكامل الفضائل…
الحب والحزم
الشخصية المتكاملة تجمع بين الطيبة والقوة, وبين الحب والحزم. وهذا الأمر لازم جدًا في محيط الآباء, والمدرسين, ورجال الإدارة. فيكون في طبعهم الحنو, ومن صفاتهم أيضًا الهيبة. وليس من الصالح أن حنوهم يفقدهم هيبتهم. فالهيبة لازمة لحفظ النظام وحفظ القيم. والحنو لازم حتى يطيعهم الناس عن حب وليس عن رعب!
* على أنه من الأشياء الغريبة في محيط الأسرة, أن الوالدين يوزعان أحيانًا الحب والحزم فيما بينهما: فيكون للأم الحب, وللأب الحزم! بينما ينبغي أن يكون الحب والحزم لكل منهما…
وفى هذا, نرى أنه إذا أخطأ الابن أو حاول أن يخطئ, تحاول الأم أن تمنعه عن ذلك بقولها له”… لئلا يغضب أبوك ويعاقبك”.. دون أن تقول له إنه هي أيضا لا ترضى عن ذلك الأمر!! ويختلط الأمر على الابن, ولا يعرف أين الحق. وكل ما في الأمر أنه يتقى غضب الأب!
* ويحدث أحيانًا أخرى أن رئيسًا لإدارة ما يريد أن يكسب محبة مرؤوسيه, ولأجل هذا يتهاون في حقوق العمل ولا يكون حازمًا في معاقبة المخطئين.
وربما تحدث نتائج سيئة جدًا, لهذا الحنو الخالي من الحزم.
الوداعة والشجاعة
هاتان الصفتان لا تتعارضان. فمن الخطأ أن يظن شخص أن صفة الوداعة تمنعه من الشجاعة, وتحوُله إلى جثة هامدة لا نخوة فيها ولا شهامة ولا حياة..! كما من الخطأ أن تحوله الشجاعة إلى التهور أو إلى العنف بفقدان وداعته. وإنما عليه أن يستخدم الوداعة حين تحسن الوداعة, ويستخدم الشجاعة حين تلزم الشجاعة. وتظهر كلً من هاتين الصفتين في الحين المناسب لها. وكما قال سليمان الحكيم ” لكل شيء زمان. ولكل أمر تحت السموات وقت”.
الوداعة ليس معناها الضعف, والشجاعة ليس معناها العنف. والوداعة والشجاعة يجب أن تمتزج كل منهما بالحكمة والفهم. وأتذكر أنني قلت مرة في رثاء أستاذ عظيم لنا:
يا قويًا ليس في طبعهِ عنفٌ ووديعًا ليس في ذاتهِ ضعفُ
يا حكيمًا أدّب الناس وفى زجره حبً وفي صوته عطفُ
لك أسلوبُ نزيه طاهرُ ولسانُ أبيض الألفاظ عفُّ
إذن ليكن الإنسان وديعًا. ولكن لا يسمح للطيبة أو الوداعة, أن تفقده كرامته وحقوقه وهيبته، وتدفع غيره إلي اللعب به، وإلا فسوف يكره الناس الطيبة، والمشكلة ليست فيها، وإنما في إساءة فهمها، وفي استخدامها وحدها بعيدة عن غيرها من الفضائل. ولذلك يجب أن نزن كل فضيلة بميزان دقيق، ولا نمارسها وحدها بغير حكمة…
البساطة والحكمة
من الأخطاء الواضحة أن يوصف إنسان بالبساطة، بينما لا تكون له حكمة. بل تكون بساطته هذه لونًا من السذاجة، وتؤخذ عليه بعض التصرفات. ويحاول البعض أن يعذروه، بقولهم عنه أنه بسيط! وفي الواقع ليست هذه بساطة حقيقية.
* فالبساطة هي عدم التعقيد، وليست عدم الحكمة، وليست هي السذاجة.. البساطة الحقيقية هي بساطة حكيمة. والحكمة يمكن أن تكون أيضًا حكمة بسيطة. ومن الجائز أن يقول إنسانًا كلامًا حكيمًا جدًا، وبأسلوب بسيط. وتكون له حكمة في عقله، وبساطة في قلبه وفي أسلوبه. فهو يتصرف في عمق الحكمة وبكل بساطة. حكمته ليس فيها تعقيد الفلاسفة. وكلامه العميق يكون واضحًا وبسيطًا يفهمه الكل.
* كذلك فليس معنى البساطة أن تصدقّ كل ما يقال لك بدون تفكير، أو تعطى مجالًا للبعض أن يخدعك أو يلهو بك! إنما في بساطة تعاملك مع الناس، تكون مفتوح العينين حاضر الذهن، تستطيع أن تميز الذئاب التي تلبس ثياب الحملان. كما لا تعيش في جو من الحذر والشك والظنون…
* وأيضًا الإنسان البسيط -حينما يطيع من هو أكبر منه- إنما يمزج الطاعة بالحكمة. وبهذا لاتقاد شخصيته المتكاملة بفضيلة واحدة منفصلة عن باقي الفضائل الأخرى…
الرحمة والعدل
هاتان الفضيلتان يمكن أن تجتمعا معًا، ولا تناقض بينهما…
والله -جل جلاله- من صفاته الرحمة وأيضًا العدل، بغير انفصال بينهما. فرحمته مملوءة عدلًا، وعدله مملوء رحمته. ويمكن أن نقول إنه عادل في رحمته، وإنه رحيم في عدله.
هما صفتان تتكاملان، ولا تتناقضان إطلاقًا
إذن متى يختلف العدل عن الرحمة عند بعض البشر؟ يحدث الاختلاف في حالة التطرف من جهة ممارسة أيّ منهما.. أي عندما يتحول العدل عند البعض إلي قسوة، أو تتحول الرحمة إلى استهانة بحقوق العدل، وتشجيع الآخر على الخطأ، ولو عن غير قصد!
وهنا يمكن أن نقول إن الشخص الرحيم يمكن أن يعاقب المخطئ، ولكن في رفق على قدر ما يحتمل ذلك المخطئ. وأيضًا بقصد إصلاحه وإعطاء درس لغيره، وليس بروح الانتقام ولا بعنف…
وهكذا فإن المسئول عن إدارة عمل، لا يجوز له أن يسلك في فضيلة التسامح والعفو عن المخطئين، بأسلوب يسئ إلي العمل، وتسقط به هيبة الإدارة، ويسوده التسيب واللامبالاة!! وهنا يكون المسئول قد فقد فضيلة العدل وفضيلة الحزم، وظنّ أن المعاقبة خطية !
إنما بالتكامل في الفضائل، يعرف الإنسان متى يعفو، ومتى يعاقب. ويكون روحيًا في كلا الحالين. ويعرف متى يعمل العمل المناسب، في الوقت المناسب، وبالسبب الداعي إليه…