مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 13-5-2007
القوة.. عناصرها ومصادرها
ما هي القوة الحقيقية؟ لأنه توجد قوة زائفة.
القوة ليست هي العنف, فالعنف منفّر. وليست هي حب السيطرة وإخضاع الآخرين. وليست هي التهور والاندفاع والجرأة على كل كبير, كتلميذ يتحدى معلمه, أو ابن يتجرأ على أبيه! وليست هي قوة شمشونية في الجسد والعضلات.. ول هي الاحتداد بالنفس بأسلوب خاطئ والافتخار بهزيمة الآخرين. وأيضًا القوة ليست هي استخدام السلطان في غير موضعه, ولا هي الإدعاء باللسان..! إذن م هي القوة؟ وما عناصرها وما مظاهرها
من أهم عناصر القوة: قوة الشخصية
أي أن يكون الإنسان قويًا في عقله, في فهمه, في قدرته على الاستيعاب وعلى الاستنتاج. قويًا في ذاكرته, في سرعة بديهته, في حكمته وحسن تصرفه. ويكون أيضًا قوى الإرادة والعزيمة, وقويًا في حسن إدارته للأمور. وأيضًا يكون قويًا لا يهتز أمام أي تهديد أو تخويف.
وتظهر قوته أيضًا في كل عمل يعمله, وفي كل مسئولية يتحملها. فيكون قادرًا على تحمل المسئوليات مهما كانت كبيرة أو خطيرة. فيقوم بعمله بكل جدية, وبكل أمانة والتزام. ومهما حدثت من عوائق أو مضايقات, لا يقلق ولا يضطرب, بل يقف كالجبل الراسخ لا يتزعزع. وواثقًا بأن كل مشكلة لها حل, وأن الله يعمل معه ويعمل به..
وهذا الإنسان القوى في شخصيته, يكون له تأثير في المجتمع الذي يعيش فيه, وربما يمتد تأثيره إلى أجيال… وهو لا يتأثر بأخطاء البيئة- إن وجدت- بل تكون له القدرة على التأثير على غيره, عن طريق فكره واتجاهاته ومبادئه وقدوته الصالحة.
عنصر آخر من عناصر القوة, هو ضبط النفس:
ولا شك أن ضبط النفس يحتاج إلى قوة داخلية. وقد قال سليمان الحكيم “مالك نفسه خير ممن يملك مدينة”. وضبط النفس يشمل قوة لضبط الأفكار فلا تسرح فما لا يليق, وقوة أخرى لضبط الحواس حتى لا يخطئ بالنظر أو السمع أو اللمس, مع ضبط لمشاعر القلب وعواطفه. كذلك الذي يتدرب على ضبط النفس, يحتاج إلى قوة أخرى ليضبط لسانه, فلا تخرج من فمه كلمة خاطئة ولا كلمة زائدة… كل هذا يدل على قوة داخلية تستطيع أن تتحكم في الفكر والحواس واللسان والمشاعر.
والإنسان الذي يضبط نفسه هو إنسان قوى يمكنه أن يتحكم أيضًا في غرائزه وانفعالاته, ويرتفع فوق مستوى الإثارة. ذلك لأن الإثارة الخارجية لا يمكنها أن تثيره من الداخل, لأنه يكون دائمًا أقوى منها. فهو لا ينفعل مثلًا ويثور إذا ما تعرض لإساءة من أحد, ولا يقاوم الشر بالشر, ولا يرد على الكلمة الخاطئة بمثلها. إنه شخص قوى. لا يغلبه الشر, بل يغلب الشر بالخير, ويستطيع أن يسيطر على الغضب, ويكون قويًا في أعصابه فلا تفلت منه…
ومن هنا فمن مظاهر القوة: قوة الاحتمال:
فالإنسان القوى يستطيع أن يحتمل الشدائد والضيقات. وإن أصابته تجربة, لا تهزه من الداخل. بل يصمد ويمكنه أن يتحملها إلى أن تمرّ… كما أنه يحتمل أيضًا أخطاء الآخرين. عارفًا أن الإنسان المخطئ هو الضعيف الذي لم يضبط نفسه. ولذلك فإن الأقوياء هم الذين يقدرون أن يحتملوا ضعفات الضعفاء. والشخص القوى من الداخل, ليس فقط يقدر على الاحتمال, وإنما أكثر من هذا يمكنه أن يغفر للمسيء ويسامحه…
الإنسان الضعيف يحتاج إلى من يحتمله. أما القوى فيحتمل غيره, يحتمل طباع المسيء وأخطاءه وتصرفاته.. هنا تظهر القوة الروحية التي بها يصبر, ولا يضج ولا يتذمر, إنما يتصرف بصدر واسع وقلب منفتح, وبحنو على الآخرين كمرضى
والإنسان القوى هو قوى في حبه وبذله وعطائه:
هذه هي المحبة القوية, التي ليست بالكلام واللسان بل بالعمل والحق. ولعل من أعمقها محبة الأم لرضيعها, ومحبة الجندي لوطنه, ومحبة الراعي لرعيته. وتظهر قوة هذه المحبة بالأكثر في بذل الذات وتظهر بأجلى صورها في سيرة الشهداء الذين بذلوا حياتهم في فرح, وكذلك في حياة النسّاك وأهل الزهد الذين تركوا كل شيء لكي يتفرغوا لمناجاة الله. كما تظهر أيضًا في مخاطرات الذين يعملون في إخماد الحرائق, وفي إنقاذ الغرقى وأمثال تلك الأعمال الإنسانية.
وفى هذا المجال, لا ننسى أيضًا الذين يبذلون كل جهدهم في علاج مرضى السلّ والجذام, وفي العناية بالمعوقين والمكفوفين, وفي العناية بالأيتام, وبالذين ليس لهم أحد يهتم بهم.
إنها المحبة القوية التي لا تتضجر من أنين المريض, ولا من شكوى المحتاج, ولا من إلحاح المتضايق, ولا من طلبات المعوزين. بل في قوة تبذل الوقت والجهد والعاطفة لأجل إراحة الآخرين. وتكون مستعدة -في قوة حبها وعطائها- أن تبذل أكثر وأكثر…
ومن عناصر القوة: قوة الإيمان وقوة الصلاة.
أقصد الإيمان القوى بالله الذي لا يضعف ولا ينحرف مهما حاربته الشكوك والظنون. الإيمان بالوجود دائمًا في حضرة الله, فيخجل أن يخطئ أمامه, واثقًا أن الله يرى كل شيء. بل حتى بالفكر والنية يخشى أن يخطئ لأنه يؤمن إيمانًا قويًا أنه الله فاحص للقلوب وعارف بما في الأفكار والنيات. وأيضًا الإيمان القوى بأن الله يتدخل ويحل المشاكل ويرسل الفرح من عنده. وكذلك الإيمان القوى بالأبدية والحياة الأخرى والعمل لها.
ومن الأيمان القوى تصدر أيضًا الصلاة القوية التي تثق بأن الله يسمع وأن الله يستجيب. إنها الصلاة التي يمكنها في قوة أن تفتح أبواب السماء, وأن تصنع المعجزات…
هناك قوة أخرى في التوبة, وفي الصمود أمام المحاربات الروحية:
التوبة القوية التي تكون حدًا نهائيًا يمنع الخطية, وتكون فاصلًا بين حياة وحياة, بحيث لا يرجع الشخص مرة أخرى إلى الخطأ مهما كانت الإغراءات والضغوط الخارجية. تلك التوبة القوية التي قال عنها القديسون إنها ليست مجرد ترك للخطية, بل هي كراهية للخطية, يمتد بعدها التائب في العمل الإيجابي البناء, وفي حياة البر التي تنمو معه يومًا بعد يوم.
والشخص الروحي القوى هو الذي ينتصر باستمرار على محاربات الشيطان, مهما كانت تلك المحاربات شديدة وضاغطة.. وهو في توبته تكون له القوة التي يعترف بها أنه قد أخطأ, مثلما فعل القديس أغستينوس الذي كتب اعترافاته ونشرها لكي تقرأها الأجيال. ودلّت تلك الاعترافات على صدق توبته.
والقوة الروحية تتميز بأنها دائمة. مستمرة ومستقرة:
بلا ذبذبة أو نكسة ورجوع إلى الوراء.
لأنه ما أسهل -عند كثيرين- أن يظهروا أقوياء في موقف معين, أو في فترة معينة, ثم تخور قواهم بعد ذلك.
وهنا يقف أمامنا سؤال يطرح ذاته: ألا يحدث أن البعض قد يضعف أحيانًا؟ فم هي أسباب الضعف؟ وما أنواعه؟ وما علاجه؟ هذا ما أود أن أحدثك عنه في المقال المقبل, إن أحبت نعمة الرب وعشنا.