مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 12-11-2006
القيم السليمة والتقييم الخاطئ
إن كلمة (قيم) اللغوية هي كلمة جمع ومفردها (قيمة). وتعني الأشياء ذات القيمة التي تقود الإنسان في حياته. والمقصود بها اصطلاحًا. هي الأمور السامية ذات القيمة التي يهتم بها كل من يتبع طريقًا فاضلًا، ويتمسك بها كمبادئ يبدأ بها كل عمل يعمله…
فم هي الأشياء التي لها قيمة في تقديرك؟ والتي تقودك في حياتك؟
إن الناس يختلفون من جهة القيم. فالإنسان الروحي له قيم عالية يضعها أمامه باستمرار. بينما هناك أشخاص في العالم، يعيشون بلا قيم أو لهم قيم أخرى غير روحية، أو لهم تقييمهم الخاص للأمور.
* في قلب كل إنسان يوجد اهتمام بشيء معين له القيمة الأولى في تقديره الخاص. ومن أجل هذا الشيء يبذل كل جهده. وفيه يركّز كل عاطفته. فهناك من يركز كل همه في المال، ويعطيه كل القيمة. وهناك من يركز القيمة كلها في الشهرة أو العظمة. وهناك من يجعل القيمة كلها في النجاح أو التفوق…
وبحسب هذا التركيز قد تختفي القيم السابقة التي ربما لا يفكر فيها إطلاقًا!
وهنا يقف أمامنا موضوع هام هو:
الغرض والوسيلة:
فإنسان له غرض معين يعطيه كل القيمة، ربما في سبيله لا يهتم بنوعية الوسيلة التي توصله إليه، وقد تكون وسيلة خاطئة! فلا مانع مثلًا من الكذب والخداع والفن والحيلة لكي يصل إلى غرضه أيًا كان هذا الغرض! فإن وصل، يشعر بفرحة النجاح، حتى إن كانت راحتك قائمة على تعب الآخرين!
لا شك إن هذا هو إنسان وصولي، يعيش بلا قيم، قد فقد السمو في الغرض والوسيلة، كليهما! وفرحه فرح باطل!
أما الإنسان الروحي، فيضع أمامه غرضًا صالحًا. ولابد أن تكون وسائله الموصلة إلى هذا الغرض الصالح هي وسائل صالحة أيضًا.
فهكذا يكون أصحاب القيم والمبادئ.
وهنا نتعرض لموضوع هام هو:
معنى النجاح
كل إنسان يشتاق إلى النجاح. ويمثل النجاح إحدى القيم التي يضعها أمامه. ولكن ما هو النجاح. ونقصد النجاح بمعناه الحقيقي…
ذلك لأن الأشرار يفرحون أيضًا إذا ما نجحوا في تحقيق الشر الذي يريدونه! وكل صاحب غرض يفرح بنجاحه في الوصول إلى غرضه مهما كان خاطئًا! ونحن لا نقصد النجاح بهذا المعنى..
فالنجاح الحقيقي هو أن تصل إلى نقاوة القلب، وليس فقط إلى تحقيق أغراضك أيًا كانت.. وهكذا يكون النجاح هو أن تنتصر على نفسك، لا أن تنتصر على غيرك.
والنجاح هو أن تصل إلى ملكوت الله في قلبك. وكل غرض آخر لك يكون داخل هذا الملكوت.
فإن خرج نجاحك عن هذه القيم، يكون فشلًا لا نجاحًا.
والعجيب أنه كثيرًا ما يطرح إنسان بأنه قد نجح بينما السماء ترثى لحاله! وقد يضمن أنه نجح في أمر من أمور هذا العالم الحاضر، بينما يكون قد خسر أبديته!
وهنا لابد لنا أن نعرض لإحدى القيم الهامة وهى الاهتمام بالأبدية.
الاهتمام بالأبدية
الإنسان الروحي يكون اهتمامه الأول هو بأبديته، أي في مصيره الأبدي. وينمو في هذا الشعور حتى تشغل الأبدية كل اهتمامه، تصير الأبدية صاحبة القيمة الأولى في حياته. وكل عمل أو غرض يتعارض مع أبديته يرفضه رفضًا كاملًا. وهذا الاهتمام بالأبدية يجعل لحياته اتجاها روحيًا ثابتًا، حريصًا على محبة الله وحفظ وصاياه.
هذا الاتجاه الروحي يفقده الذين جعلوا القيمة الأولى لحياتهم هي الانشغال بالعالميات وبالمركز والمتعة انشغالا ملك كل تفكيرهم، وأنساهم الحياة الأبدية، كما أنساهم قول السيد المسيح: “ماذا يستفيد الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه”…!!
ليتك تسال نفسك أيها القارئ العزيز: م هي قيمة الحياة الأبدية عندك؟ هل هي إحدى القيم الأساسية التي تحرص عليها، ولا تبرح ذاكرتك في أي وقت؟ أم أنت لا تفكر فيها على الإطلاق، تشغلك عنها اهتمامات كثيرة؟ فما هي هذه الأمور الكثيرة التي تنال منك اهتماما وتقيمًا أكثر من أبديتك؟! أما آن الأوان أن تصلح موازينك الروحية، وتعيد تقييمك للأمور، حتى تنال ما يليق بها من اهتمام وتركيز في قلبك وفي فكرك وفي توزيع وقتك؟
إنه كلما ترتفع قيمة الأبدية في قلبك وفي فكرك، فعلى هذا الحدّ تصغر وتتضاءل قيمة شهوات العالم في نظرك.. . وهذه بلا شك واحدة من معالم الطريق الروحي… لأنه سيأتي وقت يفارق فيه الإنسان كل ما في العالم من متع وملاذ، ويقف ليقدم للّه حسابًا.
لقد جرَّب القديس أوغسطينوس كل شهوات العالم قبل توبته، ولكن لما تاب وصغرت كل هذه الأمور في نظره، أستطاع أن يقول: جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي أني لا أشتهي شيئًا ولا أخاف شيئًا.
أتركك الآن يا قارئي العزيز وإلى اللقاء في المقال المقبل لنكمّل باقي تأملاتنا.