جسد، وروح، وعقل
20 – 8 – 2006
الإنسان مكوّن من عناصر كثيرة أهمها الجسد والروح والعقل. وهو محتاج إلى أن يحفظ التوازن بينهما، فلا يسود عنصر منها على الآخر ويلغى كيانه… فإن ساد الجسد تمامًا، لتحول إلى شخص مادي شهواني. وإن سادت الروح تمامًا، يتحول إلى الإنسان إلى عابد أو ناسك. أما إن ساد العقل -وكان سليمًا- فإنه يتحول إلى فيلسوف… ولكن إن حفظ التوازن بين عناصره، فإنه يكون إنسانًا طبيعيًا… لكل من هذه العناصر الثلاثة مجاله وأسلحته وغذاؤه. وعلينا أن نهتم بها جميعًا بعناية وحكمة…
الجسد له عمله الظاهر في النشاط والحركة، وعمله الباطن من جهة كل أجهزته الداخلية التي تعمل باستمرار في نظام دقيق وفي تعاون مع بعضها البعض. والعقل له عمله الظاهر في التفكير وفي الفهم والاستنتاج والذاكرة وفي الخيال أحيانًا. وعمله الخفي في العقل الباطن وما يخزنه من أفكار ومشاعر وشهوات، تظهر أحيانًا في الأحلام. أما الروح فهي عنصر الحياة للإنسان، تمنح الحياة للجسد والعقل معًا…
سلاح الجسد هو الحواس المنضبطة. وسلاح العقل هو المعرفة السليمة. وسلاح الروح هو الضمير الصالح ولكل من هذه العناصر الثلاثة حروبه. فحروب الجسد تكمن في شهواته. وحروب الروح هي الخطية. وحروب العقل هي الجهالة، وأسوأ منها سوء الفهم. الإنسان في صورته المثالية -عقلًا وجسدًا وروحًا- هو الوضع الذي يشتهيه الكل، وهو ما يسمونه سوبرمان Super Man. ولعله هو الذي يقصده ديوجين الفيلسوف الذي شوهد وهو يجول بمصباحه في النهار باحثًا عن شيء. فلما سألوه “عن أي شيء تبحث؟” أجاب “أبحث عن إنسان”…!! وقد تحدث برنارد شو Bernard Shaw الكاتب المشهور عن السوبرمان، فجاءته مغنية أيرلندية جميلة جدًا. وقالت له: ما رأيك في أن نتزوج وتنجب ابنًا يكون هو السوبرمان في عقليته وجماله؟ فرفض ذلك الأديب الساخر هذا الاقتراح. وأجابها: ما يدريني ذلك الابن كيف يكون؟ ربما يأخذ جماله منى، وعقله منك. فيصبح لا شيء..!! إن كان الإنسان المثالي غير موجود فرضًا، أليس من الممكن للإنسان العادي أن ينمو؟ نعم، إن جسد الإنسان ينمو، ولكن إلى سن معينة وفي حدود معينة، ثم يقف نموه.
غير أنه يمكن تنمية حواس الجسد. ولكن العقل لا ينمو. له مستوى معين، كما خلقه الله في نوعية خاصة. إنما يمكن تنمية قدراته، في الحدود التي يحتملها مستوى العقل… كذلك الروح نفسها لا تنمو. ولكن يمكن تنمية محبتها للخير والفضيلة، وتنمية مقدار مقاومتها للخطية. كلً من الجسد والعقل والروح له غذاء، علينا أن نقدمه له: غذاء الجسد هو الطعام، وغذاء العقل هو المعرفة، وغذاء الروح في محبة الله والتأمل والتسبيح. وغذاؤها أيضا حب الخير. أما الجسد فنحن مواظبون على إعطائه الغذاء الكافي.
فهل نعطى العقل أيضًا غذاءه؟ وهل نعطى الروح غذاءها؟ الجسد نعطيه الغذاء كل يوم، وفي وجبات. ونعطيه في الغذاء كل أنواع العناصر التي تلزمه. فهل نفعل هكذا مع كلٍ من العقل والروح؟! أم نهملهما؟! وإن منحناهما غذاءً، لا يكون ذلك بمواظبة ولا بحرص..! الجسد إن لم يأخذ غذاءه، يضعف وربما يمرض. كذلك العقل والروح: إن لم يأخذا غذاءهما، تضعف قدراتهما، أو على الأقل لا تنمو…
هناك من يقوى جسده فقط، دون الاهتمام بتقوية قدرات عقله وروحه، فتجده مجرد مظهر من الخارج. وكما قال الشاعر العربي: ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل! إذا حدث تعاون بين عمل كلٍ من الجسد والعقل والروح، يبلغ الإنسان أرقى ما يمكنه أن يصل إليه. ولكن يحدث أحيانًا أن يسيطر أحدهما على غيره، وحينئذ لا يكون هناك. اتزان في تصرفات الإنسان: مثال ذلك قد تسيطر أعصاب الجسد، وتوقف عمل العقل، فيتصرف الإنسان تصرفات غير لائقة، وكأنه بلا عقل!! العقل موجود، ولكن الأعصاب هي التي تولت قيادة التصرفات، وبطياشة!! وفى أوقات كثيرة يكون العقل مجرد خادم مطيع لرغبات الجسد: فإن أراد الجسد تنفيذ شهوة معينة له، نجد العقل يدبر له كل شيء وينفذه.
وبالأكثر يلتمس أدلة وبراهين لتبرير شهوة الجسد هذه!! وهنا يتحول الإنسان إلى شخص شهواني، وكأنه أيضًا بلا عقل!! إذن ليس العقل في كل وقت، يكون هو الحكم الذي يسيطر على شهوات الجسد أو على أعصابه، وإلا لكان يعمل على منع الخطأ قبل وقوعه… وبخاصة لو كان يخضع لقيادة الروح… الروح أيضًا لها رغبات واشتياقات تريد من العقل أن ينفذها. والمهم أن يقتنع العقل بذلك… ويرغب هو أيضًا في أن يشترك مع الروح. وهكذا نرى أن التأمل هو مزيج من عمل العقل والروح معًا.
فهي تأملات روحية، ولكن العقل عنصر فيها. وكذلك كل ما يلفظه اللسان من عبارات الصلاة، والتي تخرج أصلًا من القلب… إذن حينما يسجد الإنسان ثم يقف مصليًا، ومخاطبًا الله سبحانه: أليس في صلاته يكون الجسد والعقل والروح مشتركة كلها معًا في عمل العبادة. وهذا هو عمق مفهومها. يشترك فيها الإنسان كله… وفى كثير من الأحيان يقف العقل وحده، واثقًا من كيانه الخاص، ومستقلًا عن سيطرة الجسد وضغوطه، لكي يقدم بذاته إنتاجًا فكريًا دسمًا، يثرى به العالم كله أو على الأقل مواطنيه.
من أمثلة ذلك ما قدمه اينشتين Albert Einstein في مجال العلم، وأمثاله من العلماء، وما قدمه دانتي Dante Alighieri وبرناردشو في مجال الروايات. وأيضًا شكسبير Shakespeare في الشعر، وبتهوفن Beethoven في الموسيقى، وطه حسين وتوفيق الحكيم في الأدب… كل أولئك الذين سجل التاريخ أسماءهم بحروف من نور…