مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 21-1-2007
خطورة الخطوة الأولى المؤدية إلى الخطية
إن أردت يا أخي أن تحترس من السقوط, ابعد كل البعد عن الخطوة الأولى المؤدية إليه. وأعرف أن أطول طريق بدايته خطوة..
وفى غالبية الأحوال لا تهجم الخطية دفعة واحدة بكل قوتها. إنما قد تزحف زحفًا, ربما في مدة طويلة, نحو القلب. القلب الذي تريد أن تقتحمه, حتى تصل إليه بتدريج طويل…
فالذي يقع في الإدمان, لا يقع فيه فجأة,، إنما بتدرج قد لا يشعر به إلا بعد أن يصبح فريسة له. كذلك من يقع في لعب القمار أو في الرشوة, قد يصل إلى ذلك بعد فترة. وهكذا شهوة الزنا, وأيضًا شهوة السلطة..
فعلى الإنسان الحكيم أن يعرف من أين تأتيه الخطوة, ويرقب مراحلها. وعلى رأى المثل “الباب الذي تأتى منه الريح, عليه أن يسده ويستريح”.
ومراحل الخطية تبدأ غالبًا باتصال, ثم انفعال, ثم اشتعال…
تصل الخطيئة أولًا عن طريق أسباب خارجية, أو فكر يلقيه الشيطان في القلب, أو عن طريق التهاون أو المعاشرات الرديئة. فإن أعطاها الإنسان مجالًا, قد تؤثر عليه فينفعل بها, سواء أكان انفعالًا فكريًا أو عاطفيًا. فإن تهاون من جهة هذا الانفعال الداخلي, تتحول إلى اشتعال. وفي هاتين المرحلتين تكون مؤثرات الخطية قد انتقلت من الخارج إلى الداخل, وهذا أخطر. وقد يتطور الأمر إلى ما هو أشدّ…
يتطور الأمر إلى صراع داخلي, ربما ينتهي إلى استسلام فسقوط…
إنه صراع بين الضمير والخطية, أو بين الروح والمادة. والصراع يدل على أن الإنسان رافض للخطية, ولكنها تلح عليه وهو يقاوم. إنها مرحلة متعبة, غير إنها أفضل من الاستسلام والسقوط. والإنسان قد أوقع نفسه في هذا الصراع, بتهاونه في المراحل السابقة…
وأنت لا تضمن نتيجة هذا الصراع بينك وبين الخطية…
فقد تنجح فيه بعد تعب. وقد تفشل فتلقى سلاحك, وتستسلم للعدو وتسقط. فالخطية من طبعها أنها لا تستريح حتى تكمل.
وإن سقطت في الخطية لا يتركك عدو الخير بل يستمر في محاربته, حتى تتكرر الخطية إلى أن تصبح عادة عندك أو طبعًا فيك. وتصل إلى الوضع الذي لا تستطيع أن تقاوم… بل تخضع لكل ما يقترحه الشيطان عليك, كعبدٍ له وللخطية التي سيطرت عليك.
إنه نوع من السبي, وقد يتطور إلى وضع أبشع…
قد تتطور العبودية للخطية إلى مذلة العبودية…!
أى الوضع الذي فيه يشتهى الخطية ولا يجدها..! ويطلبها متوسلًا بكل قواه. كمن يطلب شهوة المال, أو شهوة المقتنيات, أو شهوة الجسد, فلا يجدها. أو كمن يطلب العظمة أو الكبرياء أو الانتقام والتشفي. ويسعى بكل رغبته لعله يجد…
وكأنه يتوسل إلى الشيطان, أو يتسول من الشيطان, أن يمنحه الخطية. والشيطان لا يلبى نداءه ولا يستجيب… وهذه مذلة! وقد يتمادى الشيطان فيحتقر هذا الإنسان ومطالبه الخاطئة..!
فليفتكر كل شخص في أي مرحلة هو كائن؟
فليتك يا أخي تختصر هذا الجهاد, وتبعد عن الخطوة الأولى.
فهذا أسهل لك وأربح, وأكثر ضمانًا. كما أن بعدك هذا عن مسببات الخطية, ويدل على نقاوة قلبك, وعلى عدم قبولك للتفاوض مع العدو أو التعامل معه.
ضع أمامك مثال النبتة الصغيرة والشجرة الضخمة: فإنه من السهل جدًا أن تقتلع شجيرة صغيرة من الأرض. ولكنك إن صبرت عليها حتى صارت شجرة ضخمة, يكون من الصعب عليك اقتلاعها, لأن جذورها قد امتدت في الأرض وتعمقت. وحتى إن نجحت, فهناك خطورة…
قد تنتصر على فكر شرير في داخلك بعد صراع مريرًا, ولكنه في صراعك معه, يكون قد نجّس فكرك وربما قلبك أيضًا…
وحتى إن طردته من عقلك الواعي, قد يبقى في ذاكرتك وفي عقلك الباطن.وربما يعود إليك بعد حين, أو يظهر في أحلامك أو في ظنونك… فلماذا كل هذا التعب؟! الوضع السليم هو أن تتخلص منه قبل أن يستقر, وقبل أن يتسع نطاقه في تدمير روحياتك.
وبقدر إمكانك حاول أن تبعد عن الخطوة الأولى المؤدية إلى الخطية. ولا تسمح للخطية أن تتطور معك, أو أن تجعلك تتطور معها.. هذا إذا أردت أن تتوب, وأن تحفظ قلبك نقيًا.
وفى أي مرحلة وُجدتَ, لا تتطور إلى ما هو أسوأ.
لأن إرادتك قد تكون قوية في أول هذه المعركة الروحية, في مرحلة اتصال الخطيئة بك. فإذا انفعلت, تكون إرادتك قد بدأت تستجيب للخطأ. وفي الاشتعال تكون قد ضعفت. وفى الصراع تدخل في مرحلة حياة أو موت. فإن سقطت, تكون إرادتك قد وقعت صريعة في هذه الحرب. وإن صرت عبدًا للخطيئة, تكون إرادتك قد انتهت تمامًا, وتصبح إنسانًا مسلوب الإرادة. فالتفت إذن إلى نفسك, واحترس من الخطوة الأولى…
لأنه كلما يخطو الإنسان خطوة نحو الخطية تضعف إرادته ويميل إلى الخطية.
ويكون قد أعطى الشيطان مجالًا, ووسّع له مكانًا في داخل نفسه. وكلما يخطو خطوة أخرى, تقل مخافة الله في قلبه. بل يكون سقوطه بالعمل متوقعًا جدًا.
إذن لا يجوز إهمال أية خطية مهما كانت تبدو صغيرة, إنما ينبغي الحرص منها. فإن أي ثقب بسيط في سفينة, قد يتسع إذا أُهمل, حتى يتحول إلى كارثة. ونهر النيل في مجراه العظيم, قد بدأ بقطرات أمطار سقطت على جبل الحبشة, وسارت حتى وصلت إلينا نهرًا… وإهمالنا الضئيل في روحياتنا -إن تركناه حتى يكبر- يصير مخربًا لنا…
فلنحترس إذن مدققين من جهة محاربة الأخطاء.
التي ربما تكون أحيانًا عبارة عن قليل من الكسل والتهاون والتراخي. فالذي يهتم بالقليل, بلا شك سيقاوم الكثير. وكما يقول المثل الانجليزي “اهتم بالبنس, وستجد أن الجنيه يهتم بنفسه” Take care of the pennies and the pounds will take care of themselves.
كن إذن دقيقًا جدًا. لأن الخطأ الذي قد تظنه بسيطًا, ربما يجر إلى مشاكل ضخمة. واعرف أن التدقيق سوف يعلمك الحرص..
فالذي يهتم بالحشمة داخل غرفته الخاصة, سوف يحتشم بالطبع في خارجها. والتي في حجرتها الخاصة المغلقة عليها, تستحي من أرواح الملائكة والأبرار, هذه لابد أنها ستسلك بحشمة في الخارج أمام الناس..
إن الشيطان ذكي, لا يحارب الإنسان البار بخطية بشعة دفعة واحدة, ولا يطلب منه بابًا واسعًا يدخل منه إلى حياته. وكل ما في الأمر, أنه قد يستأذنك في ثقب إبرة, فلا تبالي وتسمح له, وهذا يكفيه. ثم يظل يوسعه حتى يتلف الحياة كلها!
وما أكثر الخطايا التي تدخل من ثقب إبرة!
فاحترس إذن وكن مدققًا…