مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 11-3-2007
فضيلة ضبط النفس
يقول سليمان الحكيم “مالك نفسه خير ممن يملك مدينة” فمن ذا الذي يملك نفسه. إنه الذي يستطيع أن يراقب نفسه ويحكمها…
ولا شك أن ضبط النفس يشمل عناصر كثيرة: منها ضبط اللسان, وضبط الفكر, وضبط الفكر, وضبط الحواس, وضبط الفم من جهة الأكل, وضبط الرغبات والشهوات, وضبط الأعصاب في حالة الغضب, وضبط باقي التصرفات.
والذي لا يستطيع أن يضبط نفسه بنفسه, يحتاج إلى من يضبطه. وربما يعرض نفسه لمن يعاقبه.
ضبط اللسان:
يقول الحكيم “كثرة الكلام لا تخلو من معصية. أما الضابط شفتيه فعاقل”. وقال آخر”كثيرًا ما تكلمت فندمت. وأما عن السكوت فما ندمت قط”.
والذي يضبط لسانه ينجو من خطايا عديدة: فلا يقع في إهانة الآخرين بالشتيمة أو بالتهكم القاسي, أو التهديد, أو التعالي عليهم…
ولا يقع في الكذب ولا المبالغة, ولا التجديف ولا القَسَم الباطل, ولا في كلام المجون, ولا في الثرثرة. ولا في الافتخار والتباهي والبر الذاتي. ولا في مسك سيرة الناس, ولا في الغيبة, ولا في الوقيعة. ولا في التملق والرياء, وخداع الآخرين, مع جمهرة أخرى من الأخطاء…
وما أعمق عبارة “إذا سكت الجاهل, يُحسب حكيمًا”.
إن الكلمة الخاطئة التي تقولها تُحسب عليك, مهما اعتذرت عنها…
فما دمت قد لفظتها ووصلت إلى آذان الناس وإلى أذهانهم ومشاعرهم, لم تعد ملكًا لك وحدك, بل أصبحت ملكًا لغيرك: يحللّها ويحكم عليها.. بينما كنت أنت الذي تحكم عليها قبل أن تقولها. فأصبحت هي التي تحكم عليك, لأنك بكلامك تُدان…
* وضبط الشفتين له فوائد كثيرة: منها أن الإنسان يعطى نفسه فرصة للتروي والتفكير قبل أن يتكلم, ويأخذ أيضًا فرصة لانتقاء الألفاظ واختيار الكلمة المناسبة, وحساب ردود الفعل لكل كلمة يقولها…
وما أجمل قول الشيخ الروحاني “سَكِّت لسانك لكي يتكلم قلبك”.
وخذها نصيحة: ليس كل ما تسمعه, تردده على آذان غيرك. وإلا فإنك تجلب لهم أفكارًا هم في غنى عنها. وأخطر من ذلك انك تكتب ما كنت تقول. فإن ما تكتبه يصير وثيقة عليك.
ضبط الفكر:
هو أن يحرس الإنسان أفكاره, ولا يقبل كل فكر يرد إلى ذهنه, ويكون حريصًا على أن تكون أفكاره نقية طاهرة. وإن وصل إليه فكر خاطئ, يحذر من التمادي فيه والتعامل معه, وإنما يطرده بسرعة لئلا يسيطر عليه ويتحول إلى مشاعر في قلبه…
إذن كن حذرًا يا أخي من أفكار الغضب والانتقام والشهوة, ومن أفكار الحسد والغيرة والحقد, ومن أفكار الكبرياء والافتخار وتمجيد الذات. ومن كل أفكار الشر والأباطيل وكل فكر لا يمجد الله.
وإن لم تقدر على ذلك, تذكر المثل الذي يقول “إن كنت لا تستطيع أن تمنع الطير من أن يحوم حول رأسك, فعلى الأقل لا تجعله يعيش في شعرك”.
لذلك لا تستبقِ في داخلك فكرًا خاطئًا. وحاول أن تشغل ذهنك باستمرار بأفكار نافعة, حتى إن حاربك الشيطان بفكر, لا يجدك متفرغًا له.
وهناك وسيلة أخرى لحفظ الفكر وهى ضبط الحواس.
ضبط الحواس:
الحواس هي أبواب الفكر, فاحرس هذه الأبواب.
اضبط السمع والنظر واللمس, حتى لا تُدخل إليك فكرًا خاطئًا. ولتكن حواسك طاهرة. وما يصل إلى حواسك بدون إرادتك, لا تفكر فيه, ولا تعد إليه بإرادتك. فمثلًا قد تكون النظرة الأولى مصادفة وغير مقصودة, ولكن معاودة النظر تكون بلا شك بإرادتك, وتحاسب عليها إن كانت تجلب إليك فكرًا رديئًا.
واعرف أن حواسك ليست فقط تجلب إليك أفكارًا, وإنما أيضًا قد تترسب في عقلك الباطن, وتتحول إلى أحلام وظنون…
إذن فضبط الحواس يساعد على نقاوة الأفكار, ونقاوة الأحلام والظنون. وهو يساعد كذلك على نقاوة المشاعر…
ضبط المشاعر:
إن وجدت شعورًا خاطئًا قد زحف إلى قلبك, فلا تتجاوب معه, بل حاول أن تتخلص منه بسرعة قبل أن يرسخ فيك. وباستمرار احتفظ بنقاوة قلبك. ولا تستسلم لأية شهوة أو رغبة خاطئة, بل قاومها…
وإن دخل الشعور الرديء إلى قلبك, فلا تجعل الأمر يتطور معك إلى ما هو أسوأ, أو يؤثر على إرادتك ويتحول إلى عمل…
وإن تدرجت إلى مرحلة العمل, فاضبط نفسك ولا تجعل العمل الخاطئ يتحول إلى عادة ويسيطر عليك.
ولا تسمح أن تكون مشاعرك حرة طليقة بلا قيد أو ضبط.
وإنما اضبط نفسك من جهة استخدام الحرية. ولتكن حريتك منضبطة.
لتكن حرية طاهرة, لا تفعل فيها ما لا يليق. ولتكن حرية مسالمة وعاقلة, لا تتعدى فيها على حريات الغير, ولا على حقوق الغير, ولا على النظام العام أو القانون…
والحرية الحقيقية هي أن يتحرر قلبك أولًا من كل خطأ. وحينئذ يمكنك أن تستخدم حريتك الخارجية في حكمة وسلام.
ضبط الأعصاب:
الإنسان القوى يستطيع أن يضبط أعصابه, وبخاصة في حالة الإثارة وتحريك الغضب. وهكذا يضبط نفسه من جهة الاندفاع والتهور, ومن جهة اتخاذ أي قرار سريع وهو في حالة انفعال…
وإن وجد نفسه منفعلًا, يحرص على أن يضبط لسانه, وبقدر إمكانه يضبط ملامحه أيضًا, ويضبط حركاته. ولا يسمح لنفسه أن لا يخطئ في حق غيره مهما أخطأ ذلك الغير في حقه. لأن الخطأ لا يجوز معالجته بالخطأ.
الضبط الخارجي:
الإنسان الذي لا يضبط نفسه بنفسه, قد يُرغم على الانضباط من الخارج, بغير إرادته. كابن لا ينضبط من تلقاء ذاته, فيضبطه التأديب وتربية والديه له. أو أي إنسان يرغمه على الانضباط: القانون والعرف والعقوبة.
أو إنسان يضطر إلى الانضباط عن طريق الخوف, أو بدافع الخجل من الناس, أو خشية الانكشاف أو الفضيحة.
أو شخص لا يضبطه نقاء قلبه, إنما وجود موانع تعوقه, أو عدم قدرة منه, أو أن الفرصة غير سانحة, أو لمقاومة آخرين له… وكلها أسباب غير روحية, ولا تنبع من داخله
أما الشخص الروحي فينضبط من الداخل بإرادته, حبًا منه للخير, وحرصًا منه على إطاعة الله, وتقويمًا منه لإرادته الخاصة..
وانضباطه الداخلي -في قلبه وفكره- يساعده على الانضباط من الخارج أيضًا. ويكون انضباطه الخارجي تعبيرًا عن داخله أيضًا..
على أنه باستمرارية الانضباط الخارجي, سواء كان الإنسان مرغمًا عليه من الخارج, أو أنه يغصب نفسه على ذلك, فبهذا الاستمرار يتعود الإنسان أن يكون منضبطًا..