مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 18-2-2007
ما بين الطموح والقناعة
القناعة فضيلة وهى ضد الطمع. والإنسان الفاضل يحب أن يكون راضيًا ومكتفيًا بما هو فيه. فهل فضيلة القناعة بهذا المعنى تتعارض مع الطموح الذي يريد باستمرار أن يكون حاله أفضل مما هو فيه؟ أم يستطيع الإنسان المتدين أن يجمع في حياته بين القناعة والطموح دون أن يخطئ؟
والجواب هو أنه ليس كل طموح خطيئة, بل قد يكون فضيلة.
والحكم في ذلك يرجع إلى نوع الطموح, وإلى وسيلته…
فهناك طموح روحي, وهو في نفس الوقت يتفق مع طبيعة الإنسان.
فالاشتياق إلى الكمال هو فضيلة. ونقصد به الكمال النسبي, نسبة ً إلى ما يستطيعه الإنسان وما وُهبت له من نعمة ومن عون إلهي. أما الكمال المطلق فهو لله وحده. وقد وضع الله في طبيعة الإنسان أن يشتاق إلى النمو وإلى الكمال, حتى بذلك يمكنه أن ينمو في الفضيلة وفي عمل الخير. وهذا بلا شك طموح روحي, يجب على الإنسان أن يسعى إليه…
لا يجوز للإنسان أن يكتفى بوضع معين في البر, يتجمد عنده دون أن يتقدم أو يتحرك ويمتد إلى ما هو أفضل. فهذه ليست قناعة سليمة, إنما خمول في الحياة الروحية. فيجب أن يمتد الإنسان إلى قدام, ما دام ذلك في مقدوره ولا يتعارض مع أي وصية إلهيه…
هناك إذن أنواع من الطموح, وكل نوع له هدفه:
* يوجد طموح في جمع المال, وصاحبه لا يكتفي مهما اقتنى. وهدفه هو الشهرة أو النفوذ أو شراء الناس بالمال, أو الإنفاق على الملاذ والشهوات. وربما في طموحه هذا يعزّ عليه أن ينقص ماله في الإحسان إلى غيره أو الصرف على مشروع خيري. هو يعبد المال ويتكل عليه…
مثل هذا الطموح المالي هو طموح خاطئ.
* هناك طموح آخر في السلطة والنفوذ, والارتفاع في المناصب والألقاب.
ليس من أجل استخدام النفوذ في خدمة المجتمع. إنما الهدف كله هو محبة العظمة والكبرياء. وهذا أيضا طموح خاطئ.
* هناك طموح آخر في العلم, والتفوق في البحوث العلمية. وهذا الطموح مطلوب ويستحق التقدير, بحيث يستخدم العلم في الخير.
* كذلك طموح روحي, وهو فضيلة, بحيث يكون في حكمة, ولا يقود إلى الغرور, ولا ينحرف إلى التطرف…
أما الطموح الشرير, فقد ظهر بأعلى قمته في الشيطان:
إنه طموح يهدف إلى التأله ومنافسة الله في سلطانه, وتكوين مملكة شريرة تعادى الله, وتجذب البشر إليها بعيدًا عن الله. بطموح في تدبير فرص للخطيئة, والنمو في وسائل اللهو والفساد, وابتكار أساليب جديدة في الشر. وعدم الاكتفاء بعدد الساقطين في حبائله, بل يطمح إلى إسقاط الكل. ويفرح في طموحه إن أسقط أحد الأقوياء أو الأبرار, وإن انتشر الشرّ وزاد.
ويعلّم أنصاره الطموح في درجات الفساد, وجذب الآخرين إليه. فالذي يحترف النصب والاحتيال عنده طموح في ابتكار أساليب جديدة في النصب, ويفرح بنجاحه في ذلك.
أخشى أن يكون من نفس الطموح الشرير, طموح بعض علماء الهندسة الوراثية:
أقصد الذين بدأوا يتدخلون في أمور تتعلق باختصاص الله في الخلق! بأن يتحكموا في نوعية الإنسان الذي يُولد, ويشكلون الجنين حسب هواهم من جهة المواصفات التي يريدونها. ويقدمون بويضات مخصبة أحكموا فيها دمج ما أرادوه من أوصاف الجينات. حتى صارت لهم بنوك لتلك البويضات المخصبة, تتلقى ما تريده الأم من نوع الجنين من حيث نوعه وشكله ولونه وذكائه!! وتدرجوا إلى ما أسموه بالاستنساخ”!
نحن لا نعارض مطلقًا الطموح في العلم, بحيث يكون للعلم حدود لا يتعداها إلى الدخول في اختصاص الله وحده…
والطموح الخاطئ كما يكون خاطئًا في نوعه, كذلك قد يكون خاطئًا في وسيلته:
مثال ذلك شخص يريد أن يرتفع, ويضع في طموحه أن يكون أعظم الكل. فتكون وسيلته هي أن يحطم كل من يراه منافسًا له في العظمة والارتفاع, لأنه في طموحه يريد أن يكون أعظم من الكل, وأعلى من الكل. سواء كان طموحًا في العظمة أو في الغنى أو في المناصب. والأمثلة على ذلك لا تُحصى, نشاهدها في الحياة العملية…
* وقد يكون الطموح خاطئًا بسبب شهوة لا تكتفي ولا تشبع.
كأن يقع شخص في شهوة المال. وكلما نال منه يطمح إلى نوال المزيد. وتظل نفسيته في تعب, لأن خياله يسبح في أرقام من المال أكبر أضخم. وينطبق عليه قول سليمان الحكيم “كل الأنهار تجرى إلى البحر, والبحر ليس بملآن. وهكذا يقوده هذا الطموح المالي إلى لون من الجشع, وربما إلى وسائل خاطئة لتحقيق أهدافه وبالمثل من يقع في شهوة العظمة, أو في شهوة الشهرة. ولا يكتفي…
نقطة أخرى من الطموح الخاطئ, وهى الغرور.
ففى بعض الأحيان قد يمتزج الطموح بالغرور: إما بغرور سابق أو بغرور لاحق. فالغرور السابق هو أن يظن شخص في نفسه أنه يستطيع- في طموحه- أن يقوم بأعمال هي فوق مستواه بكثير. فيتحدى أو يعد بأداء مهام لن يقدر عليها!
وليس هذا في الأمور المادية فقط, بل حتى في الأمور الروحية! إذ يريد في طموحه أن يقفز إلى فضائل قد وصل إليها الأبرار بعد جهاد طويل! أو أنه يهدف إلى مستويات يظنها فضائل, وهى ليست كذلك. ولذلك فإن الحكماء من المرشدين ينصحون مثل هذا الطامح بالتعقل وعدم التطرف.
أما الغرور اللاحق, فهو أن مثل هذا الشخص- في طموحه يصل إلى الخيلاء والتكبر, ويرتفع في عيني نفسه. ويظن أنه قد وصل إلى ما لم يصل إليه غيره!
إن الطموح بمعنى النمو الدائم في طاعة الله ومرضاته, يكون فضيلة. لكنه إذا تحول إلى مجرد الإعجاب بالذات (الـEgo) يصبح خطيئة…
لأن التمركز حول الذات- إن دخل في أية فضيلة- فإنه يفسدها, إذ يهبط بمستواها, ويغيّر هدفها الصالح..
فكل إنسان عليه أن يبذل جهده لكي يداوم النجاح ويرتفع مستواه. أما إن تحول هدفه في النجاح إلى مجرد التفوق على غيره- ولو بمستوى ضعيف- يكون قد انحرف في طموحه! لأن الإنسان الصالح يفرح بارتفاع غيره, ولا يهدف إلى مجرد التفوق على الغير. بل يريد الوصول إلى الكمال وأن يصل غيره أيضًا.
والذي يطمح في الوصول إلى المستويات العليا, لا يدخل في صراع مع الغير, ويحتفظ بقلبه نقيًا. فلا يفرح بالعلو مع هبوط الغير…
وهنا قد يسأل البعض: كيف يكون لي طموح نحو الكمال, بينما الكمال هو لله وحده؟
ونجيب بأن الكمال المطلق لله وحده. ولكن الكمال النسبي ممكن لأي إنسان, أي ما يصل إليه من كمال بالنسبة إلى ما لديه من مقدرة وإمكانيات وما يهبه الله من النعمة. ومثال ذلك يمكن لأحد الطلبة في دراسته أن يصل لدرجة الكمال في علم من العلوم حسب مستواه. إنه مجرد كمال نسبى…
* سؤال آخر: كيف يمكن التوفيق بين الطموح والقناعة؟
بينما القناعة معناها الرضا بالقليل. أما الطموح فلا يرضى بالقليل, بل أنه يهدف إلى المزيد!! وأن يمتد إلى قدام..
والإجابة سهلة. وهى أن القناعة هي قناعة في الماديات. أما في الأمور الروحية, فيمكن للإنسان القانع ماديًا أن يكون له طموح روحي. وبالمثل نقول عن الزهد: انه زهد في مشتهيات العالم الفاني. فعلى الإنسان القانع أن يمتد إلى قدام في حدود الإمكانيات المتاحة له, ويقنع بما تصل إليه إمكانياته..
سؤال أخير: ماذا عن الطموح في العلم؟
والجواب هو أن هذا الطموح واجب. ونحن نهنئ أبنائنا النابغين في العلم ونفتخر بهم. ولكن على كل إنسان أن يحتفظ بالتوازن في حياته.
فمع طموحه في العلم, لا يهمل في روحياته, ولا يقصّر في صلواته وتسابيحه ومعرفته الدينية بحجة دراسته وانشغاله بتحصيل العلم. وإنما اهتموا بهذه, ولا تهملوا تلك. والله هو المعين.