مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 3-6-2007
هدوء الطبيعة والمساكن
الطبيعة الهادئة تنقل هدوءها إلى النفس. وهدوء الطبيعة يساعد على هدوء الطبع. ومحبو الهدوء يبحثون عنه أينما وُجد.
* من أجل ذلك يخرج الناس إلى الحدائق والبساتين، حيث المناظر الطبيعية الجميلة تهدئي الأعصاب. وإن لم يستطيعوا ذلك بصفة دائمة، فعلى الأقل في أيام العطلات. كما يسافر الأثرياء إلى بلاد ذات طبيعة جميلة. وكثير من الناس يضعون في بيوتهم زهورًا في أوانٍ خاصة، أو يزينون جدران منازلهم ببعض مناظر طبيعية مريحة.
ولا شك أن ازدحام المساكن في المدينة -أية مدينة- يسبب ضوضاء وصخبًا للحواس. وبخاصة في الشوارع التجارية حيث يزدحم الناس بطريقة غير عادية – وكذلك في الأماكن التي تكثر فيها المصانع والمستشفيات والجامعات والمدارس، أو ما يسمونه (منطقة الخدمات) في المدينة.
ويستتبع ذلك تعدد طرق المواصلات وما تحدثه من أصوات وضجيج. وبخاصة في ساعات بدء وانتهاء العمل في شتى المصالح، وأقصد ما يسمونه Rush hour حيث يخرج الآلاف من الموظفين والطلبة ومن رجال الأعمال إما بعرباتهم الخاصة أو في البحث عن الأتوبيسات وعربات الترام وعربات الأجرة. وهنا يبدو ضجيج المدينة في عمقه، مما يتعب محب الهدوء ويفقده هدوء الحواس. وقد تتعطل المواصلات من كثرة الزحام في المدن المكتظة بالسكان، وما يتبع كل هذا من مشاكل وانفعالات وتعطل مصالح البعض وضياع الوقت.
لهذا كله، كان كثيرون يفضلون السكنى في الضواحي، حتى أن مدينة لندن مثلًا يفضل بعض سكانها أن يقطنوا خارج المدينة أو في ضواحيها المعروفة باسم Suburbia (كالمعادى بالنسبة إلى القاهرة مثلًا).
وعلى الأقل، إن لم يستطع البعض السكنى في الضواحي، فإنهم يقضون فيها نهاية الأسبوع كفترة راحة واستجمام، بعيدًا عن ضجيج المدينة…
كما أنه -التماسًا للهدوء- بعض المدن لا تسمح أنظمتها ببناء كل مساحة الأراضي السكنية. فلا يُسمح لصاحب الأرض إلا ببناء ثلث مساحة أرضه أو ربعها. ويستخدم الباقي كفضاء أو حديقة. وهكذا تبعد المساكن عن بعضها البعض، كما توجد الخضرة التي تساعد على هدوء الأعصاب والهدوء النفسي. ويكتسب المكان جمالًا بما فيه من أشجار وأزهار. ويتمتع كل شخص بكمية كافية من الهواء النقي، وبمناظر طبيعية تجلب الهدوء إلى النفس…
وأمثال هذه المدن لا يُسمح فيها إلا بارتفاع محدود للمساكن… وتبعًا لكل ذلك يقل الزحام وتقل الضوضاء. وتكون هذه الأحياء السكنية هي الأحياء الهادئة في المدينة.
ولكن نظرًا لارتفاع ثمن الأراضي حاليًا، ولكثرة السكان ولأزمة المساكن، فإن مثل هذه المساكن المريحة الهادئة، من الصعب أن تتوفر إلا للقادرين الذين يحبون الهدوء والسكون. وتلافيًا لهذا النقص، تحاول بعض المدن أن تخصص مساحات معينة داخل المدينة لتكون حدائق عامة كتنفس للناس… على أن هذه الحدائق -على الرغم من نواحيها الجمالية والصحية- غالبًا ما تكون أمكنة صاخبة من جهة الصوت، باعتبارها أماكن للترفيه وليس للهدوء.
لهذا فإن الذين يلتمسون الهدوء، ولا يجدونه في هذا كله، فإنهم يُنصحون بتغيير الجو التماسًا لهدوء الأعصاب…
وقد قرأت مرة في أثناء الحرب العالمية، أن ايزنهاور Eisenhower رئيس أمريكا ذهب ليقضى نهاية الأسبوع إلى جوار إحدى البحيرات، حيث التقطوا له صورة هناك وهو يصيد السمك. كل ذلك على الرغم من مسئولياته الخطيرة. ولكنه كان يعرف جيدًا أن راحة الأعصاب سوف تريحه في تحمل مسئولياته، وتعطيه نشاطًا للفكر وهدوءًا للنفس..
وبعض الآباء كانوا يجدون الهدوء في البرية. وكانوا يفضلون هدوء الليل على ضجيج النهار. وكانت صلواتهم في الليل الهادئ أكثر عمقًا وتأملًا مما في النهار الصاخب. وأتذكر أنني كتبت في مذكرتي في إحدى الليالي، وأنا في مغارتي في الجبل (ربما سنه 1960) البيتين الآتيين:
هدوء الليل موسيقى وأسرارً تهامسني
وصوت الريح في رفقِ ِ يصب اللحن في أذني
أما في المدن، فإنه للأسف، قد غيروا هدوء الليل، وجعلوه مجالًا لصخب الملاهي والحفلات بكافة أنواعها وبرامجها وضجيجها…
مما يؤثر على الهدوء أيضًا: الأصوات وشدة الأضواء وبعض الألوان: فالأصوات العالية تزعج الهدوء، سواء ما يصدر من القطارات والعربات وآلات التنبيه، والدراجات البخارية (الموتوسكلات)، وأصوات الطائرات، ومكبرات الصوت في الاحتفالات (إن كانت خارج مكان الاحتفال).. بل حتى أصوات المارة في الطرقات، وأصوات الباعة في بعض الأحياء الشعبية..
إن صخب الأصوات في المدينة يفقد أهلها هدوء الحواس، وبخاصة إن كانت تلك الأصوات تعلو وتتداخل وتستمر بلا ضابط.
وحتى في أحاديث الناس العادية: هناك من يتحدثون في هدوء، فلا يرتفع صوتهم ويعلو. بينما غيرهم يتكلمون فيسببون ضوضاء تُفقد المكان هدوءه، ويشعر سامعوهم كأنهم في شجار أو في معركة.. والموضوع الهادئ هو أن يتكلم الشخص على قدر احتياج سامعه، ولا يرفع صوته فوق الحاجة. ومحبو الهدوء لا يستريحون إلى الصوت العالي ولا إلى الصوت الحاد..
لذلك قد تكون التليفونات أحيانًا سببًا يُفقد البعض هدوءهم… وذلك إذا ما أكثر البعض استعمالها وطالت أحاديثهم، وأفقدت الطرف السامع إحساسه بملكيته لوقته، أو أشعرته بأنه قد فقد راحته، أو تعطلت أعماله بسبب تلك المكالمات..! لذلك فإن الذين يريدون قضاء وقت هادئ، يبعدون عن استخدام التليفونات إلا في الضروريات فقط.
الألوان كذلك منها ما يشيع الهدوء في النفس، ومنها ما يثير الناظر إليه. فاللون الأخضر مثلًا لون هادئ، وكذلك اللون السماوي. بعكس الألوان الحمراء والصاخبة، إلا إذا كان لونها مجرد تنوع في مجموعة، يضفى وجوده جمالًا خاصًا. ولهذا فإن كثيرين يختارون لجدران بيوتهم ألوانًا مريحة للنظر، وكذلك ألوان أثاثاتهم وألوان ملابسهم. ويختارون في حدائقهم ألوانًا من الزهور تريح أعصابهم…
وكما نذكر الألوان، نذكر الأضواء أيضًا: فالأضواء الشديدة مثيرة وتتعب العين والأعصاب. وهكذا فإن الكشافات القوية التي للسيارات، تتعب أعين السائقين في الاتجاه المضاد.
مما يزعج الهدوء أيضًا: ماكينات المصانع إن كانت في مناطق سكنية، فإلى جوار أصواتها، كثير منها يلوث الجو بالدخان أو بالبخار أو بغير ذلك مما يكون له تأثير على الصحة كما أنه يفقد الهدوء.
إن العالم لا يستغنى عن المصانع ولها فوائدها الاقتصادية.. ولكن ليس مكانها وسط مساكن الناس، ويحسن اختيار أماكن أخرى لها… وفي بعض الدول توجد مدن معنية من المعروف أنها مدن صناعية. وهى غير باقي المدن التي يعيش ساكنوها في جو هادئ. ويكفى أن عمال تلك المصانع يتحملون متاعبها.
وينطبق هذا الكلام أيضًا على المناطق التي تنتج البترول، والتي تعمل في الأسمنت والجير ومشاكل ذلك. إلى جوار الضجيج الذي يصدر عن مصانع الصلب والحديد وأدواته المتعددة…
ونحن نشكر الله أن بلادنا هادئة من نواحٍ طبيعية معينة فلا توجد فيها ثورات من باطن الأرض من براكين أو زلازل، كما أنها لا تقاسى من اجتياح السيول، ولا من الثلوج وذوبانها.
أما كيف يقتنى الناس الهدوء من حيث داخل نفوسهم وطباعهم، فهذا له موضوع خاص سوف ننشره إن أحبت نعمة الرب وعشنا.