مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 15-4-2007
هدوء اللسان وهدوء الملامح والحواس
هدوء اللسان
اللسان الهادئ محبوب من الكل. واللسان غير الهادئ يوقع صاحبه في أخطاء كثيرة. وعدم هدوء اللسان له مظاهر نذكر من بينها:
1- اللسان الكثير الكلام لا يتوقف بينما كثرة الكلام لا تخلو من المعصية.
إنه لسان يتكلم باستمرار, في أي موضوع, حتى ما يخرج عن اختصاصه ومعرفته. لا يستطيع أن يضبط ذاته داخل شفتيه. ولا يبطل الكلام حتى في أدق نقاط العلوم, ولا في أدق أسرار السياسة. المهم أن يتكلم وكفى… حتى في أخبار الناس وخصوصياتهم. إنه لسان غير منضبط, لا يستطيع صاحبه أن يتحكم فيه ولا يهدئه.. وما أجمل قول المزمور “ضع يا رب حافظًا لفمي, وبابًا حصينًا لشفتيّ”.
2- ومن عدم هدوء اللسان: حدة الصوت وعلوّه وصخبه.
إن الشخص الهادئ يتكلم بصوت هادئ كأنه نسيم عابر. أما غير الهادئ فيتكلم بصوت كأنه عاصفة هوجاء.
* هناك أشخاص- حتى في الوعظ- يعظون بصوت عالٍ وحاد, بل إنهم ينتهرون السامعين في عنف, وأمامهم ما كان يقال عن الخطباء قديمًا: إنهم (يهزون أعواد المنابر). ويكون السامعون جالسين على أعصابهم! ويكون تأثير هذا الوعظ هو الانفعال, وليس التأثير الروحي.
أما الواعظ الروحي فيقنع الناس بالتعليم النافع في هدوء, بعمل الروح فيهم وليس بانفعال حواس الجسد. لذلك قد ينفعل البعض أثناء العظة من الواعظ الانفعالي, ثم يفقدون الانفعال بعد حين. أما الإقناع الروحي الهادئ, فهو أكثر تأثيرًا وثباتًا داخل النفس.
* وإن كان الصوت العالي يُستخدم أحيانًا وسط الجماهير لكي يسمعوا, فما لزوم استخدامه في الأحاديث الخاصة؟! إن الشخص الهادئ لا يرفع صوته وهو يتحدث إلى غيره. فلا يعلو صوته فوق احتياج السامع. وهو في نقاشه لا يحدث ضجيجًا. أليس أمرًا معيبًا أن يتناقش البعض , فتعلو أصواتهم وتتداخل, حتى بسببهم سامعوهم يتشاجرون! نعم هناك أشخاص يصيحون حين يتكلمون, ويصرخون حين يهمسون. ويتكلمون بسرعة, وفى أصواتهم ضوضاء…
3- ومن مظاهر عدم هدوء الصوت أيضًا: الألفاظ الشديدة الجارحة.
إنسان مثلًا كلامه شديد وصعب, كلام مرّ وجارح, ناقد ولاذع وهدّام. تخرج الكلمات من فمه, وكأنها قذائف اندفعت من صاروخ.. بينما يستطيع أن يعبرّ عن رأيه وقصده بألفاظ هادئة..
4- ومن مظاهر هدوء اللسان هدوء الحوار.
الإنسان الهادئ يناقش في هدوء, وبه يكسب الآخرين, كما كان القديس ديديموس الضرير يناقش الفلاسفة الوثنيين في أدب جم دون أن يهاجمهم. فكانت طريقته أن يربحهم, لا أن يحطمهم ويخجلهم.
أما المناقش غير الهادئ, فإنه يحول الحوار إلى شجار, تحمى فيه المناقشة, ويتوتر الجو ويتكهرب إلى أبعد الحدود. تجد في أسلوبه تحفزًا وهجومًا, واستعدادًا عنيفًا للرد قبل أن يستوعب الرأي. وهو يحاورك لا لكي يفهمك أو يصل معك إلى الحقيقة, إنما لكي يفحمك أو يهزمك. ويحاول أن يتهكم عليك وعلى آرائك, وكأنك عدو ويريد أن ينتقم منك.
أما المناقش الهادئ, فإنه يكسبك صديقًا أثناء حواره معك, ويتكلم في موضوعية, بكل هدوء, ولا يقاطعك أثناء النقاش. ولا يتعرض مطلقًا لشخصك. وإن كنت ثائرًا يهدئك. وقد يقنعك وتوافقه على رأيه, بدون أن تشعر أنك خرجت منهزمًا. وفى هدوئه لا يشعرك مطلقًا إنكما خصمان, بل صديقان يحاولان معًا أن يصلا إلى الحقيقة.
غير الهادئين إذا تناقشوا, يقاطعون بعضهم بعضًا. وقد يكون خمسة في مناقشة: أربعة يتكلمون في نفس الوقت, وواحد منهم فقط يسمع ذلك الضجيج. وليس أحد آخر عنده استعداد لأن يسمع غيره! إنها أفكار كثيرة تتصارع. وكل واحد يرى أن الحق في فكره الخاص.
5- وما نقوله عن الحوار يمكن أن نقوله عن العقاب, الهادئ وغير الهادئ.
6- ليس المطلوب فقط أن يكون اللسان هادئًا بل بالأكثر يكون مهدئًا.
ومن أمثلة ذلك قول سليمان الحكيم “الجواب اللين يصرف الغضب, والكلام الموجع يهيج السخط”. إن الشخص الهادئ يفيض من هدوئه على الآخرين فيهدئهم إن كانوا ثائرين. أما غير الهادئ فيثيرهم بهياجه.
هدوء الملامح
قليل من الناس يستطيعون التحكم في ملامحهم. فالملامح تكشف حالة القلب, فإن اضطرب القلب, ظهر ذلك في ملامح الوجه. وكذلك إذا اغتاظ أو تضايق أو اشمئز أو خاف. كل ذلك تكشفه نظرات عينيه. إنها اعترافات غير إرادية تعلن عما في داخله. وقد يضطرب إنسان, وإن سألوه يفكر ولكن نبرات صوته, وحركات يديه أو شفتيه, ونظرات عينيه وخلجات ملامحه.. كل ذلك ينطق بما في داخله, ولا يسمح بمجال للشك.
لا تظنوا أن القلب هو باستمرار خزانة تكتم أسراره فكثيرًا ما يكون مكشوفًا ومنفتحًا بواسطة الملامح لكل شخص لماح.
إن القلب الهادئ ملامحه هادئة ومريحة. تحب أن تجلس إليه لكي تتأمل الهدوء العجيب الذي يفيض من القلب ويكسو الملامح. لذلك لم يكن عجيبًا أن أحد تلاميذ القديس الأنبا أنطونيوس يقول له “يكفيني مجرد النظر إلى وجهك يا أبى” ففي وجهه كان يرى السلام الذي يملأ قلبه.
لذلك على الإنسان أن يهدئ قلبه, لكي تهدأ ملامحه تبعًا لذلك.
هدوء الحواس
* هناك أشخاص أجسادهم غير هادئة, لا تستطيع أن تستقر في مكان واحد. تريد أن تروح وتجئ, وتقوم وتقعد. حتى في بيتها لا تستقر طويلًا, وإنما لابد من الزيارات والفُسَح ونزهة الجسد, والانتقال من مكان إلى آخر. هذا ما نسميه طياشة الجسد.
وهناك من يتحركون بلا سبب. الجسد يتحرك باستمرار. وإن تكلم تتحرك يداه, وربما رأسه تتحرك أيضًا, وقد يشير بأصابعه. وربما يتناقش اثنان وتنظر إلى أيديهما فتجدها دائمة الحركة. إنها طياشة الحركات. بعكس الجندية التي يتكلم فيها الجندي في وضع هادئ. فإن حّرك يديه يقال له [اثبت]!
في بعض الأحيان تلزم الحركة قليلًا للتعبير عن الانفعال الداخلي. أما أن تكون الحركة مستمرة فهذا غير معقول. وما أكثر من تدل حركاتهم على عدم الهدوء. حتى إن دخل الشخص منهم أو خرج، يحدث ضجيجًا في فتح الباب أو إغلاقه. وإن تحرك يحدث صوتًا في مشيه, وإن حّرك السكر في كوب من الشاي، يُخَيَّل إليك أنه يدق جرسًا. بينما الهادئون لا تسمع لهم صوتًا.
* في بعض البلاد الهادئة, تجد أيضًا المظاهرات هادئة.
هي مسيرة احتجاج هادئة. بينما المظاهرات حسب قواميسنا ضجيج هنا وهناك, حيث يصيح المتجمهرون ويهتفون, ويلوحون بأيديهم, ويقيمون الدنيا ويقعدونها, وكأنهم في شبه ثورة. أما في البلاد الهادئة, فتخرج المظاهرات تعبر عن رأيها بلافتات تحمل فكرها ومطالبها. وتنتقل من مكان إلى آخر, فتنقل إليه فكرها في هدوء.
* وهدوء الجسد يصحبه هدوء الحواس, الذي يساعد على هدوء الفكر.
الحواس الطائشة- من نظر وسمع وشمّ- تجلب أفكارًا. والأفكار تؤثر على مشاعر القلب. وهكذا قد يجلس الإنسان في اجتماع وعيناه زائغتان, تنظران ماذا يفعل هذا؟ وماذا يفعل ذلك؟ أو قد يجلس شخص على مائدة, وتتجول عيناه ليرى ماذا يأكل هذا أو ذاك؟ وكيف؟ وتتبع ذلك أفكار.
وإطلاع الحواس على أسرار غيرها, يدخل ضمن زنا الحواس:
وينطبق هذا على الأذن إن حاولت أن تسمع ما ليس من حقها سماعه. وكذلك العين التي تحاول أن تبصر ما ليس من حقها أن تبصره. إنها حواس غير هادئة همها الجولان في الأرض والتمشي فيها.
والحواس الطائشة غير الهادئة تتسبب في إثارة الأعصاب, وبخاصة إن كان هدفها البحث عن خبر مثير أو منظر مثير.
والعجيب أن الحواس أحيانًا لا تكون هادئة, حتى في أثناء الصلاة. فجولانها هنا وهناك يعطل تركيزها في الصلاة وانشغالها في العبادة. وقد يسرح الفكر مع عدم التركيز.