مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 1-4-2007
هدوء النفس والفكر
1- هناك أشياء كثيرة تعكر هدوء النفس أحيانًا، منها أخطاء الآخرين:
فقد تكون أخطاؤهم مؤذية أو مغلقة أو مثيرة تُفقد الإنسان هدوءه. ربما تصدر منهم حروب أو مضايقات أو معاكسات. وهكذا يمكن فقد الهدوء بسبب جار مشاكس، أو زميل متعب في العمل، أو مدير عنيف. أو بسبب أخطاء الغير التي تسبب ضررًا، أو تُلجئ الشخص أن يكون في حالة حرص مستمر، أو في حالة توتر بسبب ما يتوقعه من مشاكل.
فقد يخرج المدرس عن هدوئه بسبب تصرفات تلاميذه. وقد يفقد الأب هدوءه بسبب أخطاء الابن. وربما تصرفات من بعض أفراد تؤثر على هدوء المجتمع كله.
2- وقد يفقد الإنسان هدوءه بسبب معاشرة غير الهادئين:
فإن عاشر إنسانًا مضطربًا أو قلقًا أو خائفًا، ربما تنتقل عدوى أخطاء هذا الشخص إليه، أي ينتقل إليه الخوف أو الاضطراب أو القلق. وبالعكس فإن معاشرة الهادئين تُدخل الهدوء إلى النفس.
إن كثيرًا من النواحي النفسية يمتصها الإنسان من غيره، جيدة كانت أم رديئة… لذلك ليس غريبًا إن داومت الجلوس في مكان فيه سجن، أن تتنجس نفسك بما تسمعه من أحاديث الناس. وليس بعيدًا إن عاشرت إنسانًا كثير الشك، أن يسرى الشك إلى فكرك وقلبك دون أن تقصد!
3- مما يفقد الهدوء أيضًا، بعض الأخبار ووسائل الإعلام:
* ما أكثر ما تقدمه بعض الفضائيات والصحف وسائر وسائل الإعلام من أخبار مثيره قد تزعج نفسيات الناس، وتؤثر على أفكارهم وأعصابهم. حتى ليظن البعض أن هناك دمارًا قد حدث أو كوارث سوف تحدث! وقد تتلاحق هذه الأخبار بسرعة، حتى ما يفيق الشخص من سماع خبر، إلا ويلاحقه خبر آخر.. وهكذا يعيش البعض في توتر! وهناك صحفيون يرون أن الإثارة هي دليل النجاح في نشر أخبارهم، فيختارون العناوين المثيرة والأخبار المثيرة، بغض النظر عما تحدثه في النفوس، وقد لا تكون صحيحة.
* ونفس الوضع ينطبق على الأخبار التي يرويها الناس في أحاديثهم.
أخبار المشاكل والضيقات والآلام والفضائح، سواء على مستوى عام أو على مستوى الأسرة أو الفرد. وهناك من يروى بأسلوب فيه انفعال شديد، ينقله إلى من يسمعه فينفعل بانفعاله..
ويعيش الناس في شدّ وجذب من جرّاء الأخبار المتلاحقة. حتى أن من يريد أن يحيا في هدوء، يحاول أن يبعد عن هذه الأخبار المثيرة..
4- وأهم ما يُفقد الإنسان هدوءه، ما تحدث له من مشاكل:
* فصغار النفوس، أقل مشكلة تزعجهم. أما الكبار فقد يتضايقون إلى حين، إن بدت المشكلة بلا حلّ. فإن وصلوا إلى حل، تهدأ نفوسهم.
الإنسان غير الهادئ قد يقيم الدنيا ويقعدها إن صادف مشكلة. وقد يكون تصرفه في علاجها، هو مشكلة أخرى يسببها وتكون أسوأ مما أراد علاجه!
* والإنسان قد يفقد هدوءه أمام مشكلة خاصة، أو أمام مشكلة عامة، كالمواصلات أو الروتين أو المشاكل الاقتصادية.
هدوء الفكر:
الإنسان غير الهادئ، تشغله أفكار كثيرة، تموج وتطيش، وتروح وتجئ، ولا تثبت على حال. فكرً يجذبه إلى هنا، وفكر يشده إلى هناك. وذهنه دائم التغير. والأفكار تؤثر على نفسه، فتكون غير مستقرة. وهكذا يحاربه القلق والشك، ويدفعانه إلى الخوف والتردد.
فالفكر الشكاك القِلق يفقد هدوءه من الداخل:
ويظل يسائل نفسه في حيرة: هل هو على حق في شكوكه، أم إنها وهم بدافع من الخوف؟ وكيف يمكنه أن يتحقق من ذلك؟ وربما لا يصل إلى حل، وتظل الشكوك تعذبه وتؤرقه، وتختفي أحيانًا ثم تظهر. وفي شكوكه ما أسهل أن تسوء علاقته مع الآخرين.
والشك على أنواع: سواء كان شكًا في وقائع أو أشخاص، أو في عقيدة أو في الله نفسه. وربما يكون شك الشخص في ما ينتظر مستقبله.. وفي كل ذلك يكون العقل مضطربًا، وأفكاره حائرة وغير هادئة.
على أن هدوء القلب قد يجلب هدوء الأفكار. وقد ينجوا الشخص من شكوكه باستشارة بعض الحكماء، وبالصلاة لكيما ينقذه الله من شكه ويكشف له الحقيقة، ويُبعد عنه الاضطراب والقلق والحيرة.
ومن مظاهر عدم هدوء الفكر: حالة الفكر الطائش الجوّال:
إن الفكر الهادئ يكون مركزًا، ومستقرًا في موضوع تفكيره، وله عمق في التفكير. أما الفكر غير الهادئ، فإنه يجول من موضوع إلى موضوع. ويطيش في أمور متعددة، بغير هدف. كالتلميذ الذي تطيش أفكاره اثناء المذاكرة، أو المصلى الذي تطيش أفكاره أثناء الصلاة.
وقد قال أحد الآباء “إن كانت النار طعامها الوقود، فإن الفكر طعامه الحكايات”. فالفكر الطائش غير الهادئ يهوى الحكايات. وينتقل من قصة إلى قصة، ومن خبر إلى خبر، ومن شخص إلى آخر، دون أن يهدأ، سواء في قراءته أو صلاته أو صمته. إنه يذكرنا بالشيطان الذي يهوى الجولان في الأرض والتمشي فيها!
ومن مظاهر عدم هدوء الفكر، حالة الفكر النقّاد:
ذلك الفكر الذي لا يعجبه أحد، ولا يعجبه شيء. فهو باستمرار ثائر على الأوضاع، يرى أن الحق قد ضاع! وهو دائمًا ينظر إلى كل الأمور بمنظار أسود. ويهوى أن ينتقد كل ما يصل إلى علمه. ولو عن غير معرفة وعن غير دراسة وعن غير فهم لمجريات الأمور!! وعلى رأى المثل العربي “الناس أعداء ما جهلوا”.
وهذا الشخص قد يحشر نفسه في ما لا شأن له وبه، ويتحدث بأسلوب الواثق في أمور ليست من اختصاصه. ومشكلته أن في قلبه سخطًا أو حقدًا، أو أن فيه تذمرًا على سائر الأمور، فيصل إلى النقد، ويتباهى بأنه ينقد. بينما يفقد فكر هدوءه. وأكثر من هذا، يحاول! إشاعة عدم الهدوء في عقول غيره، ينشر أفكاره الناقدة غير الهادئة.
ومن الأفكار غير الهادئة، الفكر اللحوح:
هذا النوع من الفكر يلحّ على عقل الإنسان إلحاحًا، ويضغط عليه بطريقة متعبة. وإن حاول العقل أن يتخلص منه، لا يستطيع، بل يستمر فيه. وبخاصة ذلك الفكر الذي ينام به الإنسان ويصحو، ويلحّ عليه بلا هوادة ولا راحة، حتى أثناء عمله وأثناء سيره. وأخطر من هذا أن يدفعه إلى التنفيذ بسرعة. ولا يعطيه فرصة لمراجعته!
هذا الفكر اللحوح يفقد الإنسان هدوءه، ويعطله عن أمور أخرى قد تكون هامة جدًا. ويضغط على أعصابه ويتلفها، لكيما تحسب أن تنفيذ هذا الفكر هو أسهل وسيلة للراحة منه…
إن الفكر اللحوح هو فكر مشاغب وعنيف، كما لو كان يرغم صاحبه…
ومن أنواع الأفكار غير الهادئة: الفكر المتقلب:
ذلك الذي يعرض الشيء وعكسه. وتارة يوافق على أمر ما، وفي وقت آخر يعارضه. ويتحمس للموضوع حينًا، ثم يفتر حماسه! إنه كأمواج البحر، في المدّ والجزر. وهو فكر متردد يسبب لصاحبه القلق وعدم الاستقرار. يذكّرنا بقول الشاعر:
كريشة في مهب الريح طائرةٍ لا تستقر على حالٍ من القلق
أما الفكر الهادئ، فإنه يشبه السفينة التي تشق طريقها في هدوء، في مسار واحد، لا تضطرب فيه، ولا تنحرف يمنة ولا يسرة..
أن الأفكار الهادئة تنبع من قلوب هادئة. بينما الأفكار غير الهادئة تفقد القلب هدوءه. وكذلك القلب غير الهادئ يزعج الأفكار.