مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 18-3-2007
الهدوء.. تاريخه وعناصره وأنواعه
تاريخ الهدوء:
الهدوء هو الأصل في هذا الكون. وهو الأصل قبل خلق هذا الكون أيضًا. كان الله وحده منذ الأزل, في هدوء كامل. ومرّت ملايين السموات, أو ملايين الملايين, بل ما هو أكثر. بل قبل أن يوجد الزمن, وقبل أن تُعرف مقاييسه… والهدوء هو الأصل.
ثم بدأ الله يعمل كخالق, وخلق كل شيء. وهكذا “في البدء خلق الله السموات والأرض”. وتمت قصة الخلق في هدوء. خلق الله الكون. وعاش الكون في هدوء. وكمثال لذلك كانت الأجرام السمائية تتحرك في الفلك, بكل نظام ودقة, وبكل هدوء, بدون اضطراب. نهار يعقبه ليل, وليل يعقبه نهار. لا ضجيج ولا صراع…
إذن متى بدأ الكون يفقد هدوءه؟
كان ذلك بعد أن خلق الله مخلوقات عاقلة, ذات إرادة حرّة.. ومرّت على هذه الكائنات العاقلة فترة وهى هادئة: ليس من يتشاجر, ولا من يتخاصم, ولا من يحتج, ولا من يخالف أو يعصى, ولا من يثير مشكلة أو اضطرابًا بأية صورة من الصور.
وكان أول فقد للهدوء سببه الشيطان.
وسقط الشيطان وهوى, وتبعته مجموعة من أتباعه.
ومن جهة البشر: عاش الإنسان أولًا في هدوء. حتى الوحوش كانت تحيا معه في هدوء. لا عداوة بينه وبينها. ل هي تفترسه ولا حتى تهجم عليه. ولا هو يصيدها أو يطاردها أو يخافها. بل تجمعه معها رابطة من الألفة والمعيشة المشتركة الهادئة. وكما كان الأمر مع أبينا آدم, كان نفس الوضع مع أبينا نوح في الفلك. فالوحوش المفترسة في أيامنا, لم تكن مفترسة في أيام آدم.. وما كانت تفترس حيوانًا أضعف منها…
على أن الإنسان الأول أخطأ وطُرد من الجنة. وسجّل لنا الكتاب كيف أن أخًا قتل أخاه. ثم امتلأت الأرض شرًا وضجيجًا…
غير أن هذه الفترة الصاخبة, التي تعيشها البشرية على الأرض, لا تقاس إطلاقًا بالهدوء الشامل الذي كان منذ الأزل, والذي سيكون في الأبد إلى ما لا نهاية…
إنها نقطة مضطربة في بحر الهدوء اللانهائي.
ولعل الملائكة ينظرون إلى عالمنا في تعجب. ولعلهم يقولون: لماذا الضجيج في هذا الكوكب؟ ولماذا يعيش الناس في صخبٍ هكذا؟ متى يهدأون؟! ويقينًا إنهم لن يهدوأ إلا إذا وصلوا إلينا. لأن الهدوء هو منهج الحياة في السماء..
عناصر الهدوء:
ما هو الهدوء؟ وما عناصره؟ وما نتائجه؟
وما الفضائل التي ترتبط بالهدوء, وتُفقد بفقده؟
وكيف يمكن للإنسان أن يحصل على الهدوء, ويستمر فيه؟
إن الهدوء يشمل حياة الإنسان كلها, في الداخل والخارج, ما ظهر منها وما استتر. وهكذا يشمل:
1- الهدوء الداخلي: ويشمل هدوء النفس, وهدوء القلب, وهدوء الفكر.
2- هدوء الجسد: ويشمل هدوء الحواس, وهدوء الحركات.
3- هدوء الأعصاب: ويشمل روح البشاشة, وهدوء الملامح أيضا.ً
4- هدوء الكلام: ويشمل نوعية الكلام وطريقته, وهدوء الصوت.
5- هدوء التصرف: ويشمل الهدوء في الحياة العملية, والسلوك الخاص.
وأيضًا هدوء الحلول فيما يصادف الإنسان من مشاكل.
وتتعلق بكل هذه الأنواع أمور أخرى منها:
أ- هدوء الطبيعة, وهدوء المكان, وهدوء المسكن.
ب- فضائل ترتبط بالهدوء.
ج- طبيعة الهدوء, وهل هو هدوء حقيقي, أم مجرد مظهر هادئ, أم هدوء مؤقت, أوانه لم يُختبر بعد؟؟
الهدوء الحقيقي:
1- لا يمكن أن نحكم على إنسان بأنه هادئ, إلا إذا حدث اختبار لهدوئه…
فقد يبدو الإنسان هادئًا, لأن الظروف الخارجية التي حوله هي الهادئة, ولم تحدث مشكلة أو إثارة تختبر هدوءه. وربما لو اصطدمت به, يظهر على حقيقته إن كان هادئًا أم لا…
أى إن اصطدم مع شخص آخر في الرأي أو في التصرف. أو إن أصابته إهانة أو أذى, أو تعّرض لكلمة جارحة… حينئذ يمكن من تصرفه أن نحكم على حقيقة أو مدى هدوئه.
ونفس الوضع إن وقع في مشكلة ما, أو في ضيقة, أو تعرّض لمرض, أو واجهته صعوبة ما… فإن ذلك يكون اختبارًا لنفسيته, واختبارًا لأعصابه: كيف يسلك ويتصرف, وهل يفقد هدوءه وينزعج؟ أم يحتمل ويحل المشكلة في هدوء؟ هذا هو أول اختبار للهدوء الحقيقي, لأن كل إنسان يمكنه أن يكون هادئًا في الظروف الهادئة.
2- أما الاختبار الثاني, فهو مدى الاستمرار في الهدوء.
فالهدوء الحقيقي هو هدوء دائم, كشيء من الطبع. فلا يهدأ الإنسان إلى فترة معينة, ثم يفقد بعدها هدوءه, ويتغير سلوكه أمام المشاكل!!
إنما هي الطبيعة الهادئة التي تستمر في هدوئها, مهما طال الزمن وتغيّر الحال.
الإنسان الهادئ بطبعه لا تغيّره المشاكل والاصطدامات, بل على العكس تظهر ما عنده من رحابة الصدر ومن وداعة وطيبة القلب.
3- والهدوء الحقيقي ليس هو الهدوء الظاهري, بل الداخلي
فلا يكون الشخص هادئًا من الخارج فقط, بينما في داخله بركان ثائر!! بل على العكس يكون هدوؤه الداخلي هو منبع وسبب هدوئه الخارجي.
4- وهناك فرق بين الهدوء الحقيقي, والهدوء الذي قد يكون مثيرًا..!
وذلك لأنه يحدث أحيانًا أن شخص قوي الأعصاب يمكنه أن يحتمل زميلًا منفعلًا, ويردّ عليه بهدوء شديد أو ببرود شديد بأسلوب يثير أعصابه بالأكثر. فيزداد انفعاله, ويقابل هو هذا الانفعال بمنتهى الهدوء أو البرود, متفرجًا عليه, وجاعلًا منه مجال نقد من الحاضرين!
كلا, ليس هذا هو الهدوء بمعناه الروحي السليم. فالإنسان الروحي لا يحطم غيره بهدوئه. فأخوه المنفعل هو وديعة في يديه, يحافظ على أعصابه وعلى سمعته. ويحاول أن يوصّله إلى الهدوء هو أيضا.ً والإنسان المحب للهدوء لا يكون فقط هادئًا, وإنما أيضًا مهدئًا. وإن وجد غيره هائجًا, يهدئه بالجواب الليّن..
5- والإنسان الهادئ إما أن يكون قد وُلد هكذا, أو يكون الهدوء عنده مكتسبًا.
والهدوء المكتسب يحتاج إلى جهد, وإلى تدريبات نود أن نعرض لها فيما بعد. وكل جهد في الوصول إلى الهدوء, له مكافأته وأجره… والذي يصل إلى الهدوء بالتدريج والتدريب والجهد, لا يعود يبذل فيما بعد جهدًا, بل يكون راسخًا في حياة الهدوء, وله في ذلك خبرات. ولذلك فإنه يحافظ على هذا الذي اقتناه بتعب وبمعونة كبيرة من النعمة…
وأنت -يا أخي القارئ- إن كنت غير هادئ بطبيعتك, فلا تقل لا شأن لي بالهدوء. لقد وُلدت وطبيعتي هكذا!
حتى إن كنت قد وُلدت هكذا, فليس هذا عذرًا. يمكنك أن تتغير, وتجاهد لكي تقتنى الهدوء. ولكي تصل إلى ذلك: عليك أن تقتنى الهدوء. ولكي تصل إلى ذلك: عليك أن تقتنع بأهمية الهدوء, وبفائدته لك ولمن تتعامل معهم. وتقتنع أيضًا بأن هناك فضائل تتعلق بالهدوء, من صالحك أن تقتنيها…
ولكي أحدثك عن كل هذا, أرجو أن يسمح لنا بفرصة في المقال التالي لنتابع حديثنا, إن أحبت نعمة الرب وعشنا.