مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 25-3-2007
فوائد الهدوء والفضائل المرتبطة به
* الهدوء يريح الأعصاب, ويساعد الفكر في عمله. وفي الهدوء يمكن للإنسان أن يحل مشاكله, بأعصاب غير مضطربة وفكر غير مشوش.
وفى التعامل مع الناس, الطريقة الهادئة أكثر تأثيرًا في النفس وتأتى بنتائج مقبولة, بعكس الطرق العنيفة التي تأتى بردود فعل سيئة. لذلك فالإنسان الهادئ محبوب من الناس, يساعدهم هدوءه على قبول كلامه.
وفى الحياة العملية الشيء الذي يُعمل في هدوء, يأتي بنتائج أفضل..
* غير أن بعض الناس طبيعتهم نارية. أينما يحلّ الواحد منهم, يحلّ معه التوتر والغليان, ويسبقه ضجيجه. هو عبارة عن شعلة متقدة, حيثما ألقيت أشعلت وأحرقت, وتفجّر منها الشرار. والشخص الناري نظراته من نار, كلماته قذائف, وطلباته أوامر لا تقبل التأجيل.
هذه الطبيعة الثائرة, إن وجدت هادئًا تثيره. أما الطبيعة الهادئة فإن وجدت ثائرًا تهدئه.
* الشخص الهادئ الأعصاب لا ينفعل بسرعة. وربما لا ينفعل أيضًا ببطء. إنه كالجبل الرأسي, تعصف به الرياح وهو راسخ. أو هو كالجنادل الستة التي تعترض النيل في أقصى الجنوب, مهما عصفت بها الأمواج تبقى هادئة في مكانها, لا تتأثر ولا تتزحزح…
أما الإنسان الثائر الأعصاب, فأنه ينفعل بسرعة ويثور ويصخب, وربما لأتفه الأسباب أو بغير ما سبب. لمجرد شكوكه الداخلية وتصوراته!
بعكس الإنسان الهادئ, فهو قوى, تعجز الأسباب الخارجية عن أن تثيره.
بل تستطيع أعصابه القوية أن تصمد أمامها. وهكذا ينال إعجاب الناس. بينما الثائر الصاخب: مهما ثار وضج، وشتم وهدّد، وبدأ وكأنه يخيف غيره، فإنه لا ينال احترام أحد. ثورته تدل على ضعفه وعلى عدم قدرته في ضبط نفسه…
* الشخص غير الهادئ نفسيًا, يضع هموم الدنيا كلها فوق رأسه. ويتعرض بذلك لمشاكل كثيرة: فيفقد سلامه الداخلي, ويقع في الاضطراب والقلق وما في ذلك من أتعاب, وربما يقع كذلك في الكآبة والحزن والارتباك. وقد يصاب نتيجة لذلك بأمراض عديدة جسدية ونفسية. إنه يضر نفسه صحيًا وفكريًا واجتماعيًا. ويفقد شخصيته واحترام الناس له. إنه يغضب منهم يغضبون عليه. وإن ثار عليهم, ما أسهل أن يعاملوه بالمثل, فيفقد صداقتهم ومحبتهم, وقد يتعرض لعداوتهم.
* غير الهادئ: أقل كلمة تعكره, وأقل تصرف يثيره. وربما تحاربه رغبة في الانتقام وفي الدفاع عن نفسه, وفي إثبات وجوده وحماية كرامته. فيثور ولا يصل إلى نتيجة, بل تسوء حالته. وفي كل حال يخسر المواقف, وتُمسك عليه أخطاء…
* أما الإنسان الهادئ, فإنه بالجواب اللين يصرف الغضب, ويمكنه أن يهدئ مناقشه مهما كان ثائرًا…
ودائمًا الإنسان الهادئ هو الأقوى… لأنه أستطاع أن يتحكم في أعصابه وفي ألفاظه. ولأنه ارتفع فوق مستوى الإثارة فلم تقوَ عليه. وأيضًا لأنه- في هدوئه- يمكنه أن يتحكم في الموقف, وأن يدير الحوار بغير انفعال.
* انظروا إلى السماء في هدوئها. وكذلك الملائكة وكيف ينفذون أوامر الله في هدوء عجيب. وكيف يعلمون في حراستنا وحفظنا بهدوء كامل حتى أننا لا نشعر بهم ولا بعملهم…! وانظروا أيضًا كيف كان الشهداء هادئين أثناء استشهادهم, يستقبلون الموت في هدوء وبكل فرح, لملاقاة الرب…
* أيضًا القلب الهادئ يتمكن من العمل الروحي, في الصلاة والتأمل والقراءة والتسبيح. أما إذا فقد القلب هدوءه, فإنه لا يقدر على التأمل. وإن حاول الصلاة تسرح أفكاره وتطيش. وإن قرأ كتابًا لا يمكنه أن يركزّ ويفهم ويتابع… لأجل كل هذا كان النُساك والرهبان يبحثون عن الهدوء والسكون. لأنه في الجو الهادئ, وفي المكان الهادئ, البعيد عن الصخب والضوضاء, يمكنهم أن يمارسوا عملهم الروحي…
فضائل ترتبط بالهدوء
* الهدوء له علاقة بالمحبة, يأخذ منها ويعطيها:
فالإنسان المحب يكون هادئًا في علاقته مع الناس. لا يثور عليهم, ولا يمتد ولا يشتد. أما الكراهية فإن دخلت إلى قلب شخص, تكون كالبركان الثائر الذي لا يهدأ. تريد أن تنتقم وأن تحطم. ولا تهدأ حتى تنفذ ما تريد, وتنفّس عما في داخلها.
والعالم يحتاج إلى الحب والهدوء, لكي يحل مشاكله. يحلها بالتصالح وليس بالتصارع. ففي الهدوء وبالهدوء, يمكن أن يتلاقى الناس مهما اختلفت أفكارهم, ليحلوا مشاكلهم في هدوء الحوار المشبع بالحب.
أما إن اختفى الهدوء, فإن الحب يختفي معه. إذ لا تبقى المحبة مع التشويش والصخب والضوضاء, والحدة في الصوت, والشدة في التصرف…
* لهذا ترتبط فضيلة الهدوء بفضيلة السلام أيضًا.
فالإنسان الهادئ يكون على الدوام مسالمًا. كان أن المسالم يكون بطبيعته هادئًا. الهادئ لا يخاصم ولا يصيح, ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. لذلك يعيش مع الناس في سلام, لأنه لا يتشاجر مع أحد, ولا يحلّ مشاكله بالعنف, بل بالهدوء.
إن السلام قد يُفقد بين عنيف وعنيف. ولكنه لا يُفقد بين عنيف وهادئ. لأن الهادئ يحتمل العنيف. كما أن النار لا تطفئها النار, بل يطفئها الماء… فإن كان الهادئ يستطيع بهدوئه أن يطفئ نار العنفاء. فكم بالأولى يكون السلام بين اثنين هادئين. كذلك فإن الهدوء مظهر يعبرّ عن السلام الداخلي في الشخص الواحد.
* والعلاقة بديهية بين الهدوء والوداعة.
لأن الهدوء هو فرع من فروع الوداعة, حتى أن اسميهما يتبادلان المواقع. فحينما نتكلم عن الهادئ نتكلم عن الوديع. وحينما نتكلم عن الوديع نتكلم عن الهادئ. والذي يفقد هدوءه, بلا شك يفقد وداعته…
* هناك علاقة أيضًا بين الهدوء والعمق:
فالإنسان الهادئ يمكنه أن يصل إلى العمق. ومن يصل إلى العمق, يصير عميقًا. وهنا يحضرني عبارة قالها أحد الآباء الأدباء الروحيين وهى:
“عندما رمى بي الله حصاة على بحيرة الحياة, أحدثت فقاقيع على سطحها ودوائر لا حصر لها. ولكنني حينما وصلت إلى القاع صرت هادئًا”.
حقًا إن السطحيين يحاولون أن يحدثوا فقاقيع على سطح الحياة ودوائر لا حصر لها. ولكنهم إن وصلوا إلى العمق يصيرون هادئين… وهكذا من يصل إلى نضج الحياة وإلى عمق الفكر وعمق الروحيات.
أما الإنسان السطحي غير العميق, فلا يكون هادئًا, بل يجول باحثًا عن ذاته, أو محاولًا أن يحقق ذاته, هنا وهناك.
* والهدوء يتعلق أيضًا بالإيمان والتسليم
الذي يحيا حياة الإيمان, يعيش في هدوء قلبي, شاعرًا أن حياته في يديّ الله الحانيتين. لذلك لا يقلق أبدًا ولا يضطرب. وإن حاقت به مشكلة يثق بأن الله لابد سيحلها, وينتظر الرب في هدوء. وبالأيمان يقول “كله للخير”. وإن أتعبته الضيقات إلى حين, يقول “مصيرها أن تنتهي”. فيهدأ قلبه ويستقر.
كما أن الذين يحيون في الإيمان, لا يكونون سببًا في تعكير هدوء غيرهم.