مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد 27-5-2007
مستويات ثلاثة في سلوك الإنسان: الجسد والروح والنفس
يتكون الإنسان من ثلاثة عناصر رئيسية هي الجسد والروح والنفس. وقد كان قدماء المصريين يميزون بين الروح والنفس.. فالروح يسمونها “الكا”، والنفس يسمونها “البا”.. وسنحاول في هذا المقال أن نتحدث عن هذه العناصر الثلاثة، ومدى تأثير كل منها على الإنسان. وسنبدأ أولا بالجسد والروح، وبعد ذلك عن النفس..
* الجسد مأخوذ من المادة، فهو في احتياج إلى المادة بطريقة طبيعية لحفظ كيانه، من جهة غذائه وشرابه ودوائه، ومن جهة إقامته وراحته. فإن أخذ من المادة ما يلزمه، لا يكون قد أخطأ في شيء…
ولكن وجه الخطأ يأتي، حينما يشتهى الجسد المادة بطريقة غير طبيعية، وحينما تسيطر عليه هذه الشهوة وتعطل عمل الروح، إذ يشتهى الجسد ما هو ضد شهوة الروح فيقاومها…
* والجسد ليس شرًا بطبيعته، وإلا ما كان الله قد خلق جسدًا، لأنه لا يخلق شرًا. ولكن الشر هو في انحراف شهوات الجسد. وذلك حينما يقع الجسد في شهوة الزنى، أو شهوة البطنة، أو في السكر والعبث، أو في شهوة القنية والامتلاك، أو شهوة المال عمومًا، أو شهوة ما يمتلكه الغير.
* مثل هذا الشخص يصير جسدانيًا، أي أنه يسلك في شهوات الجسد، وهو في هذه الحالة يكون بلا ضابط، وتسيطر عليه الحواس، بحيث يسعى باستمرار إلى متعة هذه الحواس – وبكون مستواه هو مستوى كثير من الحيوانات التي تعيش بأجسادها ولأجسادها…
ولكن فليست كل الأجساد في هذا المستوى الجسداني، إذ توجد أجساد طاهرة، لأشخاص يعيشون في الجسد، ولكن ليس حسب أهواء الجسد وشهواته. بل يمكنهم أن يضبطوا تلك الشهوات والأهواء والغرائز لتسلك في مسلكها دون انحراف.
والجسد المنضبط هو الذي يخضع لقيادة الروح ولا يقاومها
فإن كنا قد تحدثنا عن المستوى الجسداني وأخطائه ولزوم انضباطه. فما هو المستوى الروحي إذن؟
الإنسان الروحي يهتم بسلامة روحه، وبالنمو في السلوك بالروح، سواء بالنسبة إلى نفسه أو إلى غيره. وهكذا يتحاشى كل ما يعطل روحياته. ويضع أمامه في كل حين، وفي كل أمر، أن تكون صلته دائمة بالله تبارك اسمه، ينفذ وصاياه، ويبنى ملكوت الله على الأرض، وينشغل بمحبة وملائكته وسمائه. ويقول كما قال داود النبي في المزمور “محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي”. وفى نفس الوقت يحرص على أن قلبه نقيًا لا يوجد فيه شيء يعكر صفو علاقته مع الله.
والإنسان الروحي يتغذى بالفضيلة، ويتغذى بالصلاة والتسبيح ومحبة الله. يقوده ضميره الصالح، وعقله المنيرّ، وفهمه السليم لوصايا الله، وحرصه الشديد على مصيره في الأبدية، وحبه للخير حيثما يحل، ومهما كانت الظروف.
* وروحه تخضع لله، وجسده يخضع لقيادة روحه. ويحفظ التوازن بين احتياجات جسده، والضوابط التي تضعها مبادئه ومثالياته…
هذا هو المستوى الروحي الذي يسلك فيه الإنسان بالروح. على أن الإنسان مهما بلغ من مستوى روحي، يجب ألا يغتّر بذاته أو تأخذه الخيلاء والكبرياء، ظانًا أنه أرتفع إلى المستوى الذي لا يمكن أن يخطئ. بل يعرف أن الشيطان له حيله الكثيرة، وأنه “قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح” كما قال سليمان الحكيم. ولذلك فالإنسان الروحي، مهما بلغ من علو، يلزمه التواضع. وفي نفس الوقت يحيا حياة الحرص والتدقيق، وفي حكمة حتى لا تخطئ. ولكي يتفادى أية نكسة في حياته الروحية، محترسًا من أية خدعه يخدعه بها الشيطان…
* وفى كل ذلك يعتمد على الله في كل شيء. ودائمًا ينسب كل قوة يعمل بها إلى الله الذي منحه إياها. ويطلب باستمرار أن يحفظه الله من الزلل.
تكلمنا عن المستويين الجسداني والروحاني. فما هو إذن المستوى النفساني، الخاص بالنفس؟
في المستوى النفساني يتركز الإنسان حول نفسه. ويقع في حب الذات وما تشتهيه النفس من رفعة وسلطة، ومن شهرة ومديح الناس. وقد يقع في الأنانية، إذ يحب ذاته وحدها، ويرجو الخير -كل الخير- لنفسه فقط وليس للغير. وبهذا قد يقع أيضًا في الحسد والغيرة، ويدبر المكائد حتى لا ينافسه أحد… وهكذا فإنه يستخدم الفكر أيضًا والمشاعر من أجل النفس، أي من أجل نفس واحدة هي نفسه!
وقد يطلب من الله بعض المواهب، ويكون غرضه منها ليس عمل الخير ولا خدمة المجتمع، وإنما التباهي بما قد وصل إليه، لكي ينال رفعة في نظر الغير.
وهذا المستوى النفساني بعيد عن حياة الروح تمامًا التي تتصف بالتواضع وإنكار الذات وتفضيل الغير… والعجيب أن الشخص النفساني -كلما يحاول أن يرفع نفسه- يكون قد هبط بها إلى أسفل، حتى في نظر الناس لأنهم ينفرون ممن يحب التباهي ومن يتمركز حول نفسه…
وسنحاول أن نقارن بعض الشيء بين هذه المستويات الثلاثة التي يسلك الإنسان في واحدة منها…
نقطة معينة هامة وهى متعة كل مستوى:
الجسد متعته في اللذة، واللذة هي من عمل الحواس، كما أنها مؤقتة وزائلة. وهى تختلف تمامًا عن الفرح والسرور. أما النفس فسرورها ولذتها تكون في حيز ضيِّق وهو الذات. وهو سرور محدود وزمني، يكون له وقت عارض وينتهي…
ولكن الروح هي التي تفرح الفرح الحقيقي. تفرح بالخير وانتشاره، وتفرح بوجودها في حضرة الله. وتفرح بانتصارها على شهوات الجسد وعلى إغراءات الشيطان، وتفرح بنجاح الآخرين ونموهم وبرّهم. بل تفرح أيضًا بما يُسمى “مذاقة الملكوت” أي كيف تتذوق ملكوت الله وهى على الأرض وتبتهج بعشرته. كذلك فإن الروح تتميز بأنها تفرح بالألم إذ كان من أجل الله. وفرح الروح هو فرح دائم يبدأ ههنا على الأرض ويستمر في الأبدية.
ما يظنه المستوى الجسدي أو المستوى النفسي من فرح -أو من لذة وسرور- ما أسهل أن ينقلب في الأبدية إلى حزن، حين يكشف لهم الله حقيقة ما كانوا فيه فيندمون!
كذلك الشهوة تختلف تمامًا في المستويات الثلاثة: فشهوة الجسد هي في المادة، وشهوة النفس هي في الذات، أما شهوة الروح فهي في الخير والأبدية والحياة مع الله…
يبقى السؤال الأخير في مقالنا هو: هل يمكن التوفيق بين هذه المستويات الثلاثة؟ وكيف؟
يمكن ذلك في الشخصية المتكاملة، التي تعمل كلها من أجل هدف واحد مجاله الخير. بحيث لا تتعارض اتجاهات الروح مع الجسد ولا مع النفس. فالنفس تنكر ذاتها، والجسد لا يأخذ من المادة إلا ما يلزمه فحسب. ولا ينحرف الإنسان في كل عناصره عن هدف الخير.